مفهوم الرمز في القرءان
إن التنزيل الحكيم متعلق بالكون والإنسان، فاستخدم ذات القوانين من حيث المنظومة العامة واحتوائها منظومات خاصة متعلقة بها، فكما أن الوجود الموضوعي حق، وليس وهماً، أتت صياغة التنزيل الحكيم حق وصدق، ولا يوجد فيه وهم أو مجاز أو تساهل، وكما أن الوجود الموضوعي مؤلف من عناصر لها وجود حقيقي ومختلفة عن بعضها في البنية والوظيفة، كذلك كان نص التنزيل مؤلفاً من عناصر صوتية لها مفهوم حقيقي متغايرة عن بعضها نتج عن تركيبها مع بعضها كلمات مختلفة، وكل كلمة تحمل هويتها بذاتها كبصمة الإنسان، ومن هذا الوجه ظهرت قاعدة تقول: إذا اختلف المبنى اختلف المعنى ضرورة، وظهرت قاعدة: ثبات المفهوم والمبنى للكلمة وحركة المعاني والصور.
والتنزيل الحكيم كائن متعلق بالحركة والتطور والحياة والفكر، فهو كائن حيوي وليس جامداً جمود نصوص البشر، وبالتالي لا يخضع في صياغته اللسانية لضوابط البشر، وإنما اتصف بصفة الوجود الموضوعي من حيث التوسع للمعاني وفق محور الثابت والمتغير، فكل أسلوب لساني أتى في نص التنزيل الحكيم هو صواب بذاته سواء أكان استعماله غالباً أم نادراً في التنزيل، فهو الأصل والصواب الذي ينبغي أن يقاس عليه نصوص البشر؛ لا العكس.
والدارس لنصوص التنزيل يجد أن الاهتمام موجه للمخاطب وتفاعله مع الخطاب، وأثناء صياغة النص يتم تركيز المتكلم على محاور معينة فيقوم بتقديمها أو تأخيرها في الجملة على غيرها رغم عدم تغير وضع الجملة من حيث العناصر والنحو. انظر مثلاً قوله تعالى:
(حَتَّىٰٓ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ) النساء18
(حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ) الأنعام61
فكلمة الموت في النصين هي الفاعل نحوياً، ومع ذلك أتت بعد المفعول به، وذلك خلاف الأسلوب الشائع أو الغالب من حيث مجيء الفاعل بعد الفعل تماماً دون فاصل بينهما، وكلا الأسلوبين صواب، والذي يتحكم بالصياغة هو المتكلم وماذا يريد توصيله للمخاطب، فيقدم الأهم ليلفت نظر المخاطب له. نحو قولنا: جاء زيد على الفرس. وقولنا: جاء على الفرس زيد. فكلا الجملتين من حيث النحو متماثلتان، والفاعل في الجملتين هو ذاته، والذي تغير هو مقصد المتكلم من حيث تركيزه في الجملة الأولى على زيد فقدَّمه في الخطاب، أما في الجملة الثانية فالتركيز كان على الفرس فقدَّمها في الخطاب على الفاعل. انظر قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) فاطر28، تقدم لفظ الجلالة رغم أنه مفعول به على الفاعل العلماء، وذلك لأنه هو محور الجملة، وهذا الأسلوب العلمي الرصين خاص بالتنزيل الحكيم لأنه صدر من عالم حكيم، أما أسلوب الناس فيتصف بالقصور والتساهل في الخطاب، واستخدام الكلمات محل بعضها بعضاً، لذا؛ لا يصح التعامل مع ألفاظ الناس بشكل علمي ورصين، أو تُتَّخذ حجة وبرهان على أسلوب ما، أو مفهوم كلمة، ومن باب أولى أن لا يُستنبط من كلامهم – شعراً أو نثراً أو حديثاً- أي قاعدة.
لذا؛ كان التعامل مع كلام الناس قائم على المقاصد لا على المباني، ولا نريد أن نقف على مصطلحات القوم من حيث صوابها أو لا، أو مناسبتها وعدم مناسبتها، المهم في الموضوع هو المقصد وهذا محل الدراسة، ولا مشاحة في الاصطلاح مع إمكانية تغييره بالاتفاق، أو بتحديده أثناء الكلام.
وأسلوب الرمز في التنزيل الحكيم هو استخدام على وجه الحقيقة لا المجاز، وهو أسلوب يعتمد على فهم المنظومة العامة وعلاقتها بالمنظومات التابعة لها.
فما هو الرمز؟
(قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّيٓ ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمۡزًا وَٱذۡكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحۡ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِبۡكَٰرِ) ءال عمران41.
فالرمز هو أسلوب من أساليب الكلام بدليل الاستثناء في النص السابق(أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمۡزًا) ويمكن أن يكون بالإشارة باليد أو إيماء بالرأس أو حركة في بعض الوجه، أو لفظ كلمة واحدة يفهم المتلقي لها جملة منها أو فكرة كاملة. فأسلوب الرمز أوسع من أسلوب الإشارة.
الرمز: هو استخدام شيء أوكلمة على وجه الحقيقة تدل بمنظومتها على مستلزماتها وما يتعلق بها في الواقع أو منطقاً.
نحو كلمة الماء، فهي رمز للحياة. فإذا قلنا لأحدهم: إن في الكوكب الفلاني يوجد ماء، يستحضر مباشرة في ذهنه إمكانية الحياة والعمران والزراعة...الخ، رغم أن ذلك ليس من معاني كلمة الماء لسانياً، ومثل إذا قلنا كلمة نار، يستحضر السامع لها في ذهنه مستلزماتها الحرارة والضوء، ومثل رؤية الطيور في سماء الصحراء رمز لوجود الواحة والماء. وهكذا بقية الأشياء لأنها لا توجد دون مستلزمات أو علاقات مع غيرها بشكل لازم. فمجرد ذكر شيء يستحضر الإنسان علاقاتها اللازمة مع الأشياء ويرجعها إلى منظومتها
انظر مثلاً:
الشيطان رمز للشر، وفرعون رمز للطغيان الاجتماعي، وهامان رمز للاستعباد الديني أو الثقافي، وقارون رمز للاستعباد الاقتصادي، والجن رمز للقوى الخفية، والعفريت رمز للحنكة والخبرة، وإبليس رمز لنشر الفساد والانسلال، والخنزير رمز لخبث الشيء طعاماً أو طباعاً، والخمر رمز لكل ما يُغَيِّب الوعي والإدراك، والقرد رمز للتقليد والدناءة...الخ.
والفرق بين الرمز والمجاز كبير، فأسلوب الرمز يقوم على الحقيقة في الخطاب القرءاني، وعلى التواضع والاصطلاح في خطاب الناس على الغالب، أما المجاز في أصله يقوم على خلاف الحقيقة اللسانية، وهو تجاوز المعنى اللساني لأن المتلقي جسَّد المعنى في ذهنه وهو محال أن يكون كذلك إلى معنى آخر يستحضره المتلقي يظنه هو الأَولى والمقصد من الكلمة .
لذا؛ لا يوجد في النص القرءاني مجاز؛ لأن النص القرءاني يقوم على الحق والصدق، والتجسيد لمعنى الكلمة هو تصور طفولي سطحي يعتمد على الشائع بين الناس، وماينبغي الانطلاق منه لنقض أحقية الخطاب القرءاني وصوابه، والمجاز ضروري في خطاب الناس وخاصة في الشعر.
وأكثر ما يكون وضوحاً هذا الأسلوب الرمزي هو في الرؤى التي يراها الإنسان في منامه.
و الأسلوب الرمزي هو من أرقى الأساليب الكلامية لاحتوائه على رؤى متعددة، وخاصة إذا كان المتكلم عالماً حكيماً، وما ينبغي استخدام الأسلوب الرمزي في التشريع أبداً، لأن التشريع لابد له من وضوح وصراحة وبيان حتى يتعامل معه الإنسان بوعي، ويتم الحساب على موجبه بعدل.
من هذا الوجه؛ تبرز أهمِّيَّة التّأويل دُون الخرُوج عن النَّصِّ، وإنَّما الدُّخُول في النَّصِّ، والغوص فيه، والانتقال من ظاهره إلى باطنه، ومن تجسيده إلى رمزه.
لنتناول نصاً من التنزيل الحكيم لفهم أسلوب الرمز.
قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا) الأحزاب45 – 46
وقال: (تَبَارَكَ ٱلَّذِي جَعَلَ فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَٰجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا) الفرقان61
فالشّمس في السّماء سراج، كونها ذاتيَّة الإشعاع والنُّور، أمَّا القمر، وهُو كوكب تابع لكوكب الأرض؛ فقد وَصَفَهُ اللّه بصفة الإنارة فقط، كونه يستمدُّ النُّور من الشّمس، ويقوم بالإنارة والإشراق نتيجة ذلك.
ولقد استخدم اللّه ـ عزَّ وجلَّ ـ صفة النُّور للعلم والحقِّ، ووصف ـ بذلك ـ كتابه الذي أنزله إلى عباده، (جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ) المائدة15، كما أنَّه قد وصف نبيَّه الكريم مُحَمَّد بصفة السّراج والمنير معاً، وهو وصف رمزي معنوي، فالسراج أداة وهو الشيء الذي يضيء بذاته، والمنير اسم فاعل من الفعل الرباعي أنار، وهو الذي ينير للآخرين سواء طريقهم، أو عقولهم، وصار النبي محلاً لإشعاع النُّور؛ حيثُ صار ذاتي الإضاءة كمثل الشّمس، أمَّا العُلماء الذين أخذوا نُورهم من النّبي (شمس الحقّ)؛ فهم كالأقمار مُنيرون بنُور النُّبوَّة، وكواكب يدُورُون في فَلَك الشّمس وفق نظام الثّابت والمُتغيِّر، ومن هذا الوجه؛ صحَّ الحديث الذي يقول: (العُلماء وَرَثَةُ الأنبياء بالعلم والنُّور)، ومقولة: العلم نور، والجهل ظلام.
إذاً؛ لدراسة الرؤى ومحاولة تأويلها ينبغي استبعاد الفهم السطحي والشائع على ألسنة الناس، والغوص في عمق دلالة الرؤيا، والانتقال من ظاهرها إلى باطنها، ومن جزئيتها إلى منظومتها، ومن تجسيدها إلى رمزها الذي تدل عليه لزوماً منطقياً أو واقعياً.
التعليقات على الموضوع