مفهوم الدين والدولة والسلطة
الدين هو خطاب للناس يتجاوز الزمان والمكان يتعلق بالهدى، ويعرض رؤية كونية لعلاقة الإنسان بالكون والحياة وعلاقتهم ببعضهم بعضاً، وبما قبل الحياة وما بعدها، ويرسخ القيم والأخلاق والعمل الصالح.
- (قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا ٱلَّذِي لَهُ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحۡيِ وَيُمِيتُ فََٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِيِّ ٱلۡأُمِّيِّ ٱلَّذِي يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَٰتِهِ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ ١٥٨) الأعراف
(شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِ ... ١٨٥) البقرة
فالدين يدعو إلى العلمية والعالمية والإنسانية والانفتاح والتعارف والتعايش والتعاون والتفكير والتطور والتحديث وفق محور الثابت والمتغير (الحنيف)، ووفق محور الأخلاق والقيم بناء على أن الناس كلهم عباد الله، وأكرمهم أتقاهم للأذى والشر والفساد في البيئة والمجتمع (آفاق وأنفس) (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ ١٣) الحجرات
فالدين لا يعرف الحدود الجغرافية أو العرقية أو الطائفية ...، فهو خطاب للناس جميعاً تعلق بفطرتهم وغرائزهم وحاجياتهم الجسمية والنفسية، يدعوهم للمحبة والسلام والنهضة ولإعلاء كلمة الله (الحرية)، ومحاربة كلمة الذين كفروا (الإكراه)، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
(...وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ٤٠) التوبة
والإسلام من أسلم يُسلم إسلاماً وهي تدل على إرادة حرة وسلوك واعي.
الاستسلام من استسلم يستسلم استسلاماً وهي تدل على الإكراه والإجبار، وهذا ظاهر في استسلام الأسير في المعركة.
والخالق طلب من الناس فعل الإسلام وليس الاستسلام، والإسلام يدل على مفهوم السلم والسلام كثقافة يحملها المسلم ابتداء من الحرية في تصوره للوجود، وتعايشه مع الآخرين واحترامهم، فكل من حمل ثقافة السلم والسلام فهو مسلم لله ولكلماته . (إِذۡ قَالَ لَهُ رَبُّهُٓ أَسۡلِمۡ قَالَ أَسۡلَمۡتُ لِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٣١) البقرة (المسلم من سلم الناس من لسانه ويده)
والإيمان من الأمن والأمان وهو درجة أرقى من الإسلام إذ يضاف إليه مفهوم الفاعلية للمؤمن في حركته الاجتماعية ويصير محل صدق وثقة عند الناس فيأمنون على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم له، ويُديرون ظهرهم وهم كلهم ثقة بأمانته. فالإيمان تصديق بأفكار ينبثق منها قيم وأخلاق وعمل صالح (المؤمن من أمنه الناس على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم).
فالدين موجود قبل الدولة ومع الدولة ويستمر بعد الدولة، فما هي الدولة؟
- الدولة: كيان اعتباري سلطوي يمثل منظومة مجتمع وثقافته وتطلعاته في الحياة على جغرافية معينة. مثل دولة الأمويين والعباسيين والفاطميين...، وتنقرض الدول ويستمر الدين بالوجود.
- السلطة: هي أداة تنفيذية إكراهية تشرف على العناية بالدولة وحمايتها وإدارة المجتمع وفق الدستور والقانون. وتهلك السلطة أو يموت رئيسها وتستمر الدولة بالحياة، فالدولة أبقى من السلطة.
وكون الدولة كيان اعتباري لا يصح تعلق الدين بها، فلا يوجد دولة إسلامية ، ودولة غير إسلامية، لأن الدين خطاب للناس، وعلاقة الدين بالدولة أتت من كون الدين مُكَوّن ثقافي للمجتمع، والمجتمع هو الذي يصبغ دولته كدستور بثقافته، فالذي يظهر في الدولة ليس تصور الناس عن الكون والحياة والإنسان، أو الشعائر التعبدية، وإنما يظهر العلم والقيم والأخلاق والإنسانية كمصدر أولي للدستور كتوجيه بجانب مصادر أخرى لا تتعارض مع الدين، وتسير بجنبه ليشكلوا معاً منظومة الدولة بمؤسساتها مثل مصدر التاريخ والواقع والعرف والآداب والتقاليد والمصلحة والتفكير، أما الجانب التشريعي في الدين المتعلق بنظام الأسرة فهو نظام إنساني ثقافي تتبناه الدولة من هذا الوجه مثل منع نكاح المحارم ،ومنع العلاقات الجنسية الإباحية المثلية بين الذكور والذكور ، والإناث والإناث..، وتضبط الأبوة والأمومة والبنوة والزواج...، وهذا الأمر إنساني مقبول من كل المجتمعات، فمن كان متديناً يلتزم به تديناً ويضيف له الالتزام القانوني، ومن كان غير متدين يلتزم به قانوناً فقط، والنتيجة كل المواطنين أمام القانون سواء، وهذا ما يسمى دولة القانون والمدنية والمؤسساتية، أما أحكام المواريث فمؤقتاً تحكم كل ملة حسب رؤيتها إلى أن تتشكل رؤية ثقافية إنسانية عادلة يتبناها المجتمع.
والعقوبات التي أتى بها الدين الإسلامي بالنسبة إلى المجتمعات التي تحمل غالبيتها الإسلام ثقافة هي حدودية وليست حدّية، بمعنى ليس المطلوب تنفيذها بعينها، وإنما هي سقف رادع للعقوبات ما ينبغي تجاوزها، وللمجتمع أن يضع عقوبات أخرى أدنى منها بما يراه مناسباً لثقافته ، فمثلاً يمكن أن يوقف المجتمع عملية الإعدام للقاتل العمد المجرم، أو لا ينص عليها القانون، ويكتفي بسجنه لمدة عشرين عاماً، وهذا العمل هو ضمن حدود الله لم يتجاوزه أبداً، وكذلك للمجتمع أن يمنع تعدد النكاح من النساء أو يضع شروطاً له، وعمله هذا يكون ضمن حدود الله لم يتجاوزها، لأن التعدد في النكاح ليس واجباً بحد ذاته، وإنما هو مباح، والمباح لا يطبق إلا منظماً من المجتمع ويرجع منعه أو سماحه لما يراه المجتمع، وعلى الأفراد الذين يحملون التابعية لهذه الدولة بصرف النظر عن مللهم التقيد بالقانون، وبناء على ذلك وضع علماء التشريع الإسلامي قاعدة عظيمة استنبطوها من القرءان وهي (الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما أتى تحريمه بالنص القرءاني نصاً أو دلالة، ولا يُطبق المباح إلا مقيداً بنظام المجتمع) فالحرام مقيد والمباح مطلق ولا يطبق إلا بنظام المجتمع مثل حركة السير للسيارات والمشاة أو النظام الإداري للمؤسسات.
وبناء على ما عرضنا لا يصح مقولة: الإسلام دين ودولة، أو مقولة: الإسلام دين ينبثق منه دولة، أو مقولة: القرءان دستورنا...وما أشبه هذه المقولات الهزلية، فالإسلام دين هداية للناس يوجه ويضبط دولة في حال صار ثقافة المجتمع، والقرءان مصدر وليس دستوراً، لأن الدستور يضعه المجتمع ليمثل تطلعاته الثقافية والاجتماعية والنهضوية ككل، ويعدله كل فترة وأخرى ويختلف من مجتمع إلى آخر حسب الزمكان، بينما القرءان ثابت بنصه لا يتبدل أو يتغير قط لأنه مفاهيم كلية علمية إنسانية لكل الناس جميعاً.
وبذلك ظهر لنا العلاقة بين الدين والدولة، فهي غير قائمة على الفصل لأن ذلك يعني غياب العلم والبينات والقيم والأخلاق والإنسانية، وإذا غابت تلك المفاهيم ظهرت دولة فرعون، وغير قائمة على الدمج بمعنى تبني الدولة للتصورات الغيبية أو الكونية عن الحياة والموت (عقيدة) وتبني الشعائر التعبدية، وتبني فقه رجال الكهنوت للدين، وبذلك يظهر دولة هامان، وكلاهما يترتب عليهما استبداد الدولة والاستعباد، ودمج الدولة بالسلطة، وكلاهما أنجس من بعضهما بعضاً لأنه يصير فرعون هو الدولة والسلطة ذاتها، وكذلك يصير هامان هو الدولة والسلطة ذاتها.
والصواب هو وجود علاقة جدلية بين الدولة والدين غير قائمة على الفصل أو الدمج، وإنما هو مكون ثقافي للمجتمع يصبغ الدولة ويوجهها، ويكون مصدراً رئيساً وليس نهائياً لدستور الدولة.
وكون السلطة أداة تنفيذية إكراهية فلا علاقة لها بالدين قط ، وإنما علاقتها بالدولة وتُحاسب على موجب الدستور والقانون من قبل مؤسسات المجتمع.
وهذا يوصلنا إلى عمق الأزمة بين الشعب والسلطة، فمن الخطأ القول عن الأزمة بينهما إنها أزمة دينية!
فالسلطة الإكراهية لاعلاقة لها بالدين، و هي مسؤولة عن التطبيق فقط لدستور الدولة وقانونها، إذاً؛ المشكلة بين الشعب والدولة هي تطبيقية وليست نظرية أو ثقافية، وهنا يظهر مفهوم الكفر والظلم والفسق ... كممارسات لأن دلالة هذه الكلمات هي سلوك وعمل وليست نظر وثقافة أو فكر، فالكفر أو الإلحاد أو الكذب...ليسوا فكراً حتى يناقش أو يدرس، و من لم يطبق العدل فقد كفر به، ومن فسق أو كفر بالحق فهو فاسق وكافر، لأن الكفر هو تغييب وتغطية مقصودة للحق والحيد عنه، وهذا السلوك لاشك بإجرامه وضرره على المجتمع ككل، فالمشكلة بين السلطة والشعب هي مشكلة عدل وظلم، مشاركة واستبداد، حرية واستعباد، وهذا يهم كل أطياف المجتمع على حد سواء بمختلف مللهم أو قومياتهم.
وبهذا العرض نعرف أن مفاهيم الديمقراطية والجمهورية والرئاسية والبرلمانية.... هي آليات تقنية لإدارة الدولة قابلة للتعديل والتحديث بما يناسب رؤية كل مجتمع وثقافته، وليست هي فكراً أو رؤية ثقافية عن الكون والحياة والإنسان وعلاقتهم ببعضهم بعضاً، ونحن غير ملزمين بتسميتها أو برؤية الغرب لها، فيمكن أن نستخدمها ضمن ثقافتنا، ويمكن أن نصطلح مفاهيم جديدة فالأمر سيان، فما ينبغي أن نقف عند الألفاظ الاصطلاحية طالما أننا نعرف عن ماذا نتكلم ونضبطه بثقافتنا، ومثل هذه الكلمات مصطلح (العلمانية) الذي أتى نتيجة خطأ ترجمة كلمة (لايك) بالفرنسية التي لا علاقة لها بالعلم قط، وهي بدورها ترجمة لكلمة (لايكوس) اليونانية التي تعني ما ينتمي إلى الشعب أو العامة، وذلك مقابل (كليروس) التي تعني الكهنوت رجال الدين، إذاً؛ اللايكي تعني الرجل اللاكهنوت الذي لا ينتمي إلى الكنيسة ، لذا؛ العلمانية ليست ترجمة صائبة للاستخدام الذي يستخدمه العرب المسلمين أو غيرهم، فالدين الإسلامي دين يقوم على العلم ولا يمكن فصله عنه، وفصل الدين عن الدولة بمعنى فصل التصورات الغيبية والثقافية المتعلقة بالحياة والموت والشعائر التعبدية وفقه رجال الدين عن الدولة وهذا مفصولاً أصلاً في الدين الإسلامي، وكذلك من باب أولى فصلها عن السلطة، أما فصلها عن الحياة فهذا أمر لا يمكن فعله لأنه أمر شخصي فطري في الإنسان متعلق بحريته، إذاً؛ ينبغي ضبط المصطلح أو عدم استخدامه واستبداله بمصطلح العقلانية، فنقول: الدولة العقلانية أو العلمية أو الوطنية أو الإنسانية أو المدنية أو الاجتماعية ....
فالتوحيد لله في الخلق والتدبير والحكم الحدودي الدائم، والشرك في الحكم الإنساني، ولا يمكن أن يتبادلا.
ومسألة التصديق بوجود الخالق والإيمان به لايخضعان للبرهنة، لأن التصديق بوجود الخالق فطرة لا يمكن للإنسان أن يدفعها عن نفسه، والإيمان به حرية واختيار يتعلق بالأخلاق والقيم.
والجهاد بصورة القتال شُرِّع في الإسلام لإعلاء كلمة الله العُليا (الحرية) ومحاربة الظالمين الذين يُكرهون الناس على الكفر بتصوراتهم، وهذا هو القتال في سبيل الله ، بمعنى في سبيل حرية الناس وكرامتهم ونهضتهم.
فالدين للناس فاعلية وتفاعلاً، والدولة منظومة ثقافية للمجتمع، والسلطة أداة منفعلة بالدولة.
والشعب يريد إسقاط السلطة وليس إسقاط الدولة!
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ ١٣) الحجرات
العلم والأخلاق أساس للنهضة والعمران. تعايش، تماسك، نهضة
الدين للناس، والوطن للشعب
التعليقات على الموضوع (2)