الرُّوح في القرآن الكريم
بسم الله الرحمن الرحيم
طالما أثارت مسامعي لفظة (الروح) وكنت أبحث فيها كثيراً ولا أجد سوى العجز في البيان وتفسيره من قبل المفسرين فبعد بحث في أقوال المفسرين وجدت الآتي:
1- الروح المدبر للبدن في حياته.
2- ملك عظيم من الملائكة.
3- القرآن والوحي.
4- الراحة من الدنيا.
5- الرحمة.
6- النصر.
7- القدرة الإلهية على الخلق.
8- جبريل.
وأمام هذا العجز الواضح والتخبط من قبل المفسرين والذين لم يستطع احدهم ان يفسر أو يقترب من معناها الحقيقي، فكيف تكون للفظة في لسان أطلق عليه الحق جل وعلا وصف البيان كل هذه المعاني، أليس من الفصاحة والبيان أن يكون للكلمة معنى ودلالة واضحة وهذا ما لا نجده في جميع هذه الأقوال ولذلك علينا ان نبحث في كتاب الله تبارك وتعالى لنعرف المعنى الحقيقي للفظة (الروح).
قال تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) - الإسراء).
فهذه الآية هي التي اعتمدها أكثر أهل التفسير في أقوالهم السابقة.
وما يهمني الآن هو البحث عن حقيقة ما تعنيه الروح من معنى ومدلول وسأبدأ من حيث بدأ أهل التفسير من سورة الإسراء الآية رقم 85 التي أوردتها سابقا.
ولو تدبرنا المعنى العام للآية لوجدناه سؤال لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن ماهية الروح فيكون الجواب من الله تبارك وتعالى هي (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) وهنا يجب علينا ان نبحث في لفظ (مِنْ أَمْرِ رَبِّي).
قال الحق عز وجل في وصف (أمره) بقوله تعالى (إنَّما أمرُهُ إذا أرادَ شيئًا أن يقولَ لَهُ كُنْ فَيَكون) ومن هنا يتضح لنا ان الروح هي خلق من خلق الله تبارك وتعالى خلقها الحق جل وعلا بقوله (كن) كباقي خلقه ولكن يبقى قصور الفهم فيها، فنتساءل هل هي جماد في خلقها أو مخلوقات حية أو نبات أو غير ذلك وهنا علينا البحث أكثر لنصل إلى الفهم الحق فيها فنبدأ من لفظ (ربي) وما يعنيه لفظ (الربوبية) بالنسبة للمخلوق ولماذا لم يذكر الحق جل وعلا أمره بلفظ (الإلوهية) وذلك للدلالة على ان (الروح) مخلوق حي عاقل وينطبق عليه لفظ الربوبية الذي ينطبق على قائلها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وبذلك يكون الروح خلق من خلق الله تبارك وتعالى خلقها لتأتمر بأمره في تنفيذ جميع أوامره الخاصة بأنفس البشر وغيرهم من حيث بعثهم في الحياة الدنيا وتسجيل أعمالهم وحفظهم ورزقهم وإيصال أوامر الله تعالى إليهم، وغير ذلك من الأعمال الغيبية الخاصة بكل نفس والتي يأمرهم الله تبارك وتعالى بها وصولاً إلى آخر عمل يقومون به لكل نفس في الحياة الدنيا هو إماتتها بعد ان يقع كتاب الله تبارك وتعالى عليها ثم بعد ذلك يوفي الحق جل وعلا النفس حسابها على إعمالها في الحياة الدنيا ثم بعد ذلك يوكل خلق آخرين بها وهم الملائكة، ولمعرفة حقيقة ما ذهبت إليه فعلينا تدبر الآيات التي ورد فيها لفظ (الروح).
قال تعالى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا (52) - الشورى).
وهذه الآية تبين ما ذهبت إليه من أن الأرواح هي مخلوقات حية خلقها الحق جل وعلا لتنفيذ أوامره في النفس البشرية وإرسالها إليهم بصيغة رسل ليوحي لهم ما يشاء تبارك وتعالى.
وقوله تعالى (يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ (2) - النحل).
وفي هذه الآية يبين لنا الحق جل وعلا ان الروح لا تنزل على النفس لوحدها بل نزولها يكون مقروناً بالملائكة إي أن دور الملائكة هو مرافقة الروح وإيصالها إلى النفس التي أمرها الله تبارك وتعالى بإيصال أمره تبارك وتعالى إليها.
وقوله تعالى (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) - القدر).
وهنا النزول متلازم كما بين الحق تعالى فيما أسلفت وهنا نزول جماعي للملائكة والروح معا لتنفيذ أوامر الله تعالى المختلفة التي أوكلها إليهم.
وقال تعالى (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ).
ولو تمعنا في هذه الآية لوجدنا ان الملائكة وظيفتها إنزال الرَوْح ومن ثم الصعود بها مرة أخرى وهذا يعني أن الروح مخلوقات حية تختلف عن الملائكة ولذلك فصلهما بحرف الواو لتبيان ان الروح تعرج مع الملائكة في ذلك اليوم الذي قدر الله تعالى مقداره من الدهر.
وقال تعالى (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) - النبأ).
وهذه الآية تثبت بما لا يقبل الشك ان الروح خلق حي يختلف عن الملائكة فلذلك جاء لفظها في هذه الآية مختلف في الترتيب مع الآيتين السابقتين فقد وردت في هذه الآية بلفظ (الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ) أما في الآية السابقة فجاءت بلفظ (الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ) وهذا للفصل بينهما لكي لا يتأول احدهم فيقول ان الروح معطوفة على الملائكة او العكس.
وقوله تعالى (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) - الحجر).
وهنا نجد ان الحق تبارك وتعالى ذكر خلقه بلفظ (روحي) وهو للدلالة على ان الروح خلق من خلقه مثل (ملائكتي) و (رسلي) و (عبادي) وغير ذلك للدلالة على عبوديتهم كخلق هو خالقهم ومعناه اي أنه تعالى قد أمر الروح ان تنفخ فيه من علمه تعالى فأصبح آدم نفس حية.
قال تعالى (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ (171) - النساء).
وقال تعالى (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) - مريم).
وقال تعالى (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12) - التحريم)
لو تمعنا في هذه الآيات لوجدناها تفسر بعضها البعض، ففي الآية (17) من سورة مريم تبيان لقدرة الروح على تقمص الأشكال والتمثل بها فبين لنا الحق جل وعلا بأن الروح خلق من خلقه تعالى يرسلهم كرسل على من يشاء من عباده لتنفيذ الأمر الموكل إليهم تنفيذه من الله تعالى والذي يخص احد من خلقه.
وقد بين لنا الحق جل وعلا الحوار الذي دار بين الروح ومريم عليها السلام في سورة مريم وهو ما ورد في الآية (171) من سورة النساء بقوله تعالى (وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ) وهنا إشارة للحديث الذي جرى بين مريم والروح في سورة مريم، ثم يبين الحق جل وعلا بأن رسوله من الرَوْح إلى مريم قد نفخ فيها بالأمر الموكل من الله تبارك وتعالى وهو (كن) بقوله تعالى (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) - آل عمران) وفي هذه الآيات من سورة آل عمران نجد ان الحديث دار بين الملائكة المرافقين للروح مع مريم بقوله تعالى (اذ قالت الملائكة) ثم يختم الإخبار بحديث الروح مع مريم عليهما السلام بقوله تعالى (قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
قال تعالى(وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (253) - البقرة)
وقال تعالى (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) - النحل).
وفي هاتين الآيتين يبين لنا الله سبحانه وتعالى عمل أحد الرَوْح وهو روح القدس وإعطائه الأمر من الحق جل وعلا بتثبيت المؤمنين وعمل المعجزات لعيسى عليه السلام بأمر الله تعالى مثل إحياء الموتى وشفاء المرضى والإنباء بالغيب وغير ذلك.
بعد البحث والتدبر في الروح بقي أشكال أثاره أهل التفسير وهو ان جبريل هو ملك وهو روح القدس لنبحث في كتاب الله تعالى لنعرف الحق .
قال تعالى (قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّـهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّـهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّـهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ (98) - البقرة).
وقال تعالى (إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّـهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّـهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ (4) - التحريم).
بعد بحث في كتاب الله تعالى وجدت ذكر جبريل قد ورد في ثلاث مواضع، وخلصت إلى ان جبريل عليه السلام هو روح وليس ملك وكذلك ميكال لأنهما وردا بإفراد عن الملائكة والرسل، وكذلك ورد جبريل عليه السلام في الآية (4) من سورة التحريم بإفراد ومتقدم على الملائكة لكي لا يؤول المتأولون بأن جبريل معطوف على الملائكة وبذلك يكون ملكاً.
اخيراً لم يبقى سوى ازالة الشبهة عن لفظة جمع (الروح) وهي (رَوْح) والدليل على ذلك قوله تعالى (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)- يوسف) وقوله تعالى (فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89)- الواقعة) وليست (ارواح) كما قال أهل اللغو لأن اللغة مشتقة من اللغو واللغو ورد مذموماً في كتاب الله تعالى.
ومن هذا البحث نخلص إلى ان الرَوْح خلق من خلق الله تبارك وتعالى يختلف كلياً عن الملائكة وأن جبريل لم يكن ملكاً على الإطلاق بل هو إسم أحد الرَوْح التي يرسلها الله تبارك وتعالى لتنفيذ أوامره في خلقه والله تعالى أعلى واعلم.
التعليقات على الموضوع (21)