( مفهوم الرسول النبي الأمّي ) الجزء الأول
لقد لاحظت الكثير من الناس يعتقدون ويظنون إن تفسير ومعنى النبي الأمّي تعنى انه لا يقرأ ولا يكتب، وهذا اعتقاد خاطئ وغير صحيح ومن يتدبر القرآن دائما يجد فيه الشفاء ويجد فيه القول الحق وهذا ما دفعني بأن اكتب هذا المقال لتوضيح معنى الأمّي وأوضح لكم مفهوم الأمّية من خلال آيات الله البينة ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً﴾.
وقبل الخوض في هذا البحث، نشير إلى اعتقادنا الجازم أن النبي محمدا بُعث لا يتلو من كتاب ولا يخطه بيمينه ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ ولكن بعد النبوة صار النبي يكتب بالقلم وعلمه الله العليم الحكيم ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ وشهد له المشركين شهادة حق بأنه كان هو الذي يكتب في الوحي وقت نزوله عليه رغم أنهم كفروا بالوحي وبالكتاب ومن العجب أنك لا تجد حتى الذين كفروا برسالته يشهدون أنه لم يكن يقرأ أو يكتب شيئاً، كذبوه في كثير ولم يستطع أحد منهم أن ينكر عليه العلم بالقراءة والكتابة.
فلنتلو شهادة هؤلاء كما أثبتها الله عز وجل في كتابه، فهي شهادة بأمر مادي ملموس لا سبيل إلى نكرانه أو الكفر به فالنبي كان يكتتب القرآن حيث يملى عليه ولم يكن هو الذي يمليه ليكتتبه غيره، وهذه الشهادة وإن كانت تنكر الوحي إلا أنها تعترف له بالإلمام بالقراءة والكتابة. والدليل قوله تعالى ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ كان محمد النبي يقرأ ويكتب فالله سبحانه وتعالى يصف كتابه العزيز فيما يصفه به بقولـه ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ﴾.
ولذلك فإنه لم يكن من الهزل وحاشا أن يكون هزلاً أن يقول الله وقوله الحق لرسوله ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق﴾ ، يكفي أن يقول الله تعالى لنبيه (أقرأ) ليكون الرسول قارئاً وكاتباً، ثم يقول تبارك وتعالى ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ فالله لا يُعلِّم إلا بالقلم.
وكان حرياً ألا يُعلِّم رسوله الذي أرسله ليعلم البشر كافة إلا بالقلم. وإذن فماذا يستفاد من قوله تعالى ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾. لا يستفاد من ذلك أن الرسول لا يقرأ ولا يكتب، وما كان ذلك ليعني شيئاً من المعنى الكبير الذي تشير إليه هذه الآية الكريمة، لأن الملايين من البشر التي تقرأ وتكتب بل التي برزت في الكتابة والقراءة من قبله ومن بعده لم يأتوا، ولن يأتوا ولم يزعم أحد منهم بالغاً ما بلغت فصاحته وفقهه في الكتابة أو في القراءة أن يأتي بمثله أو بشيء منه قل أو كثر.
ولكن الذي يستفاد من ذلك أنه عليه السلام لم يكن يشتغل بالكتابة ولم يكن ينكب على قراءة الكتب، وأنه لم يتتلمذ على كتب ينكب على قراءتها ولم يكن يعلم بكتب يكتبها بيده كما كان يفعل بعض علماء بني إسرائيل الذين كانوا ينكبون على قراءة الكتب ثم يكتبونها بأيديهم ليخرجوا بها على الناس حتى وصل الأمر ببعضهم إلى دمج بعض ما كانوا يكتبونه بأيديهم في كتبهم لتدرس باعتبارها كتباً مقدسة.
وما الذي يستفاد من قوله تعالى ﴿فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ﴾ ، لا يستفاد من ذلك أنه كان أمُياً لا يقرأ ولا يكتب وإنما يستفاد من ذلك أنه كان بشراً من الأمة لا ينتمي إلى يهود أو نصارى يستخلص ذلك من قوله تعالى ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ ، والأميون في هذه الآية الكريمة هم الذين لا ينتمون إلى يهودية أو نصرانية وفي رأي بعض أهل الكتاب هؤلاء وكان منهم النبي محمد نبياً أميناً من الأمة التي لا تنتمي إلى يهودية ولا إلى نصرانية. يؤكد ذلك أيضاً قوله تبارك وتعالى ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ﴾.
وقد ورد في القرآن وصفه بالنبي الأمي وشرح المفسرون ذلك بعدم القراءة والكتابة، ولكننا لو تتبعنا آيات القرآن بقطع النظر عن ذلك، وقارناها بعضها ببعض فإننا نرى أن المراد بالأمي ما يقابل أهل الكتاب الذين يحوزون الكتب المقدسة ويعرفونها، فالمراد بذلك على ما يظهر أن الرسول لم يكن له علم بهذه الكتب ولم يتلق منها، وإنما جاءه العلم عن وحي من الله ولكن ما وصلنا من أقوال فقهاء السلف من المفسرين في معنى الأمّية لا يطمئن إليها قلب المؤمن السائل المتدبر.
ولو كان فيما نقلوه إلينا نص محكم من آية قرآنية لسلمنا وآمنا وقلنا سمعنا واطعنا، ولكن كل ما وصلنا لا يرقى إلى درجة الحجة، فهو رأي مجرد يخالف مناط الحكمة في ختام النبيين.
وليس أدل على ذلك من الخلاف الذي صاحب هذه المسألة عند أهل العلم أنفسهم ، فثمة أقوال لا قول متفرد، فهم قالوا على أن النبي الأمّي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، فهو على حاله التي ولدته فيها أمه، وهذا قول غير صحيح فالنبي الكريم بُعث على قاعدة القرآن في تقسيم الناس إلى أمتين، أمة أمّية لم يؤتها الله كتاباً، ولم يرسل إليها رسولاً، وأمّة كتابية أتاها الرسول وجاءها الكتاب، كاليهود والنصارى، بدليل الآية في قوله تعالى ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْۚ﴾ والناس كانوا أمّة بغير كتاب، ثم اختلفت فيما بعد، فأنزل الله إليهم الكتاب ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ ، فأصل الناس جميعا ، كما هو ظاهر أمّيّون لا كتاب معهم ثم أنزل الله الكتاب عليهم بعد ذلك فقد تكون أمياً وأنت تقرأ وتكتب أي من الذين لم ينزل عليهم كتاب ولا تحمله ولا تتلوه وقد تكون كتابياً ولكن أمياً كقوله عز وجل ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾.
ولا خلاف بأن هذه الآية قد جاءت في اليهود الكتابيين فمنهم لا يعلم الكتاب إلا امانى أي لا يحملونه ولا يتلونه ولا يعملون به فلم ترد الأمّي وصفاً لرسول لله في القرآن إلا مرتان، ولم يوصف بها فيما نعلم نبي غير محمد ، فوردت في المرة الأولى في دعوة أهل الكتاب لوجوب إتباعه على أنه الرسول النبي الأمّي، ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾ ، ثم في الآية التي تليها مباشرة ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾.
فبهذه الصفات الثلاث المتتالية يوجب الله على الناس جميعاً بما فيهم أهل الكتاب أن يتبعوا هذا الرسول النبي الأمّي.. فهي إذن صفات فارضة لازمة للإتباع أكثر منها للتسمية والتوصيف، فالأمر بالإتباع جاء صريحا في الآيتين ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ﴾ وفى قوله تعالى ﴿وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾.
وهذا يعنى فرضا لو إن النبي محمد كان أمُياً بمعنى لا يقرأ ولا يكتب فلن يتبعوه أهل الكتاب فهل يتبعون نبيا لا يعرف الكتابة والقراءة إذ لا غضاضة عند أحد من الناس في إتباع النبي، ولكن الغضاضة عند الكتابي الذي على دين نبي عيسى أو موسى حين تدعوه إلى الانتقال إلى ذلك النبي الآخر.. لذا صار الأمّي هو مربط الأمر الفارض في الإتباع والخضوع..
التعليقات على الموضوع (17)