( مفهوم الرسول النبي الأمّي ) الجزء الثاني
احدهم يسأل كيف ذلك؟ وهنا أصل المقال والبحث فأن يؤمر الناس جميعاً بإتباعه لأنه رسول من الله، أمر معقول واجب وأن يؤمر الناس جميعاً بإتباعه لأنه نبي الله، أمر واجب أيضاً، يستسيغه كل مدعوا بهذه الآية وأما أن يؤمر الناس جميعاً بإتباعه، لأنه لا يقرأ ولا يكتب، فهذا فيه نظر وتمعن.
فأهل الكتاب الذين فضلهم الله تعالى على الناس بـالكتاب سيجدون حرجا في إتباع من لا يقرأ أو يكتب وهم المفضلين من الله على باقي العالمين ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ ولكونهم فضلهم الله على العالمين ونعموا بالنبوة والرسالة وهذا هو سبب التفضيل ، فأن يؤمر هؤلاء بإتباعه وجوبا لأنه لا يقرأ ولا يكتب، فهذا محل النظر والتدبر والتفكير.
ثم من يضمن لنا ببينة من الكتاب أنه لم يكن من نبي قبله لا يقرأ ولا يكتب غير رسول الله محمد ، وأكثر النبيين أمّيين على المعنى الأول والثاني في التفسير. فالأمّي أصلها (أُمْ) أضيفت إليها الياء التي تنسب وتغني المعنى، كما نقول: الغني والعلي والذكي والنبي ، والأم بلسان القرآن العربي: الأصل والأول، فأم الرجل أصله وأوله ومنشأه، كما جاء في قوله تعالى ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا﴾ أي في أصولها ومجمعها، وليس هناك مسلم لا يعرف أم الكتاب التي في أول القرآن وأصله، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم بكونها أم الكتاب، وآية آل عمران دليل آخر ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ وذلك بما تحمله الآية من معاني الأصول والجوهر.
فهو بذلك الرسول النبي الأصل والأول بكل ما تعنيه الكلمة من معاني الأصل في الرسالة والمنشأ وحتى أصل الكلام واللسان ﴿وإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ وهنا دليل على إن النبي محمد الْأُمِّيَّ يعتبر أم النبوة والرسالة والله قد اخذ ميثاق النبيين على ذلك لأنه جاء مصدقا لما معهم فيقول الله تعالى ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾.
تبدو واضحة فهو بهذا أم الرسالة والنبوة، لم يرسل رسول ولا نبي، إلا وأُمر بإتباع الرسول النبي الأمّي، وأن يأمر قومه بإتباعه.
فكان بذلك كل نبي ورسول يُرسل إلى قومه خاصة، وهو يعلم أن محمدا رسول الله ، ويأمر بها قومه، حتى إذا أدى كل نبي ما عليه في كل الأمم، بُعث الرسول النبي الأمّي عامة لكل الأمم، فكل الرسل والنبيين مقدِّمون خاصون للرسالة العامة الأم بالرسول النبي الأمّي، فحين يدعى الكتابي للإيمان بنبي غير نبيه يتعزز ويستكبر، بأنه على دين نبي موسى كان أو عيسى، فالآن يُدعى الكتابي للإيمان بـالأمي، فهو أم نبوة موسى وعيسى والنبيين جميعاً، فكيف تؤمن بشيء وتكفر بأمه وإمامه؟
فإذا علم الكتابي يهودياً كان أو نصرانياً، أن هذا الأمّي هو أم رسالة موسى وعيسى وإبراهيم، تبرر الأمر عنده بإتباعه والإيمان به، فهو إذا النبي الإمام للنبيين الأولين وللناس كافة.
فهو بهذا أم النبوة والكتاب، فمعه أم الكتاب، وكتابه مهيمن على الكتب، كما نبوته أمّ النبوات، وهو أيضا رسول الله إلى الناس جميعاً كونه الأمّي، نسبة إلى منشأ الناس الأول، وقريتهم الأم أم القرى ﴿وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ وقوله عز وجل ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾، فهي مكة أم القرى وأصل نشأة الناس وانتشارهم، ليكون بذلك النبي الأمّي للناس جميعاً، كونه من أم قراهم، ومن بيت أبيهم الأول، فهذه أرضهم وبيت أبيهم آدم من قبل، فهو لهم كافة ثم هو النبي الأمّي الوحيد الذي تكلم بلسان الناس الأم.
ولعل هذا الفهم الذي نطرحه، ما قد يحل سؤالاً ذا مكان، ألا وهو.. ما ورد في قوله تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ﴾ فأرسل نوح بلسان قومه ليبين لهم، وكذا موسى وعيسى، وسائر النبيين، فإذا كان رسول الله محمد رسول إلى الناس جميعاً، وكتابه الوحي رسالة الناس جميعاً، وجب أن يكون لسانه لسان الناس جميعاً، وهذا ما لم يكن فيما يظهر لنا ونراه.
فكيف يستقيم هذا إلا أن يكون أمراً آخر وأعظم مما كان يبدو لنا ؟ فآية إبراهيم ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ﴾ تحل مسألة وتفرض فرضاً، نقرأه بالمفهوم اللازم للنص، أنه إن كان كل رسول يرسل بلسان قومه، فيكون لسان القوم لسان نبيهم، وأرسل محمد إلى الناس جميعاً، لزم أن يكون لسان الناس جميعاً لسان نبي الناس جميعاً محمد بلسانه العربي الأم، الذي أرسل به وأنزل به كلام الرب الذي خلق الناس جميعا!
فهو بهذا أرسل بلسانهم الأم الذي كان عليه الناس أول ما كانوا ثم تبدلت ألسنتهم واختلفت فعليهم هم أن يرجعوا إلى لسانهم الأم لسان نبيهم الأم محمد وهذا ما نراه في الأعجميين لما يسلموا فهم يضطروا لتعلم اللغة العربية لغة لسان قريش التي نزل بها القرآن.
وليس بين كل إنسان مهما كان لسانه وعمر أمته وحضارته ليس بينه وبين لسان النبي الأم إلا أم هذا الإنسان وأبوه فإن نشأ الغلام الياباني مثلاً بين العرب تكلم بلسانهم كواحد منهم بلا خلاف دون أن يكون لخمسة آلاف عاماً من حضارة قومه شأن ولا مانع.
وفي القرآن شاهد على ما نقول، فالقرآن لا يُقرّ إلا لسانين إما عربي أو أعجمي ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ فكل الألسن على اختلافها ما لم تكن عربية فهي أعجمية، والأعجمي هو الذي لا يُبين ولا يُفصّل.
والعربي لغة: ما أبان وفصّل وهذا ظاهر نصوص القرآن.
بهذا يصبح الرسول النبي الأمّي واجب الأتباع بهذه الأركان الثلاثة أمّية النبوة والكتاب على الكتب النبيين جميعا، وأمّية الأرض والمنشأ في أم القرى، وأمّية اللسان، فهو للناس جميعا بلسانهم الأم وإن تبدلوا بها أي لسان كان فهذا لسانهم الأم أولى بهم أن يتعلموه وأن يرجعوا له، وهذه أرضهم الأم وبيت أبيهم الأول.
ثم إن قال قائل: إن الأمُية كانت آيته التي تثبت نبوته قلنا إن هذا مردود جملة وتفصيلاً وإنما هو قول أهل السنة ليس له من الصحة في شيء فما آمن به أحد قط يوم بُعث لأجل أنه لا يتلو كتابا ولا يكتبه ولا دعا هو أحدا للإيمان به قائلاً بأنني أنا الذي لا أتلو ولا أخط إذ الذين دعاهم جميعا مثله لا يتلون ولا يكتبون فبم يفوق الأمي الْأُمِّيِّينَ؟
ثم لا ننسى أنه ما قال أحد قط: إن الله ما بعث نبيا إلا وهو يقرأ ويكتب.. إلا محمدأً فالنبوة والرسالة مثله فيها بضع مائة من النبيين.. ولكنه غيرهم بالْأُمِّيَّ واجب الإتباع للناس جميعا فهو محمد الرسول النبي الأمّي، أول الرسالة وآخرها وخاتمها، وللحمد في القرآن منازل الكمال والتمام، فكثير ما يرُدّ الله الحمد له حينما يكون الكل له.. فنقول: سبحان الله وبحمده، فالتسبيح لنفي النقص والحمد لإثبات الكمال.. ألا ترون الله يبدأ الأولى بالحمد ويختم الآخرة بالحمد ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فالله يجمع بين الأولى والآخرة بالحمد، ﴿وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْآخِرَةِ ۖ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ كأن الحمد عند الله هو التمام والاكتمال.
فالحمد في التمام والتمام في الحمد، فهو محمد الذي أتم الله به الدين وأكمله ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ ثم بعثه الله ليتمم به محاسن الأخلاق، فهذا الذي يجمع له الله الرسالة الأولى والآخرة ويؤتيه كتابا مهيمنا فيتم له ويتم به إنما هو محمد وبحكم تواجد أهل الكتاب (اليهود والنصارى) في البيئة المحمدية في المدينة والقرى التي من حولها فقد اخذ القران عن أهل الكتاب هذا الاصطلاح (أمّي وأُمِّيِّينَ) للدلالة به على الغير كتابيين أي من (مشركي العرب).
لم يأخذ القران لفظة أمي وأُمِّيِّينَ بمعناها اللغوي، بل أخذها بمعناها الاصطلاحي. وهذا ما دل عليه الواقع القرآني وذلك في قوله ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾. وقل يا محمد للذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى والأميين الذين لا كتاب لهم من مُشْرِكِي العرب ﴿أَأَسْلَمْتُمْ﴾؟ ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ﴾ الذين عندهم كتاب وَالْأُمِّيِّينَ الذين لا كتاب لهم وهم الكفار ومُشْرِكِي العرب. في قوله تعالى ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ بمعنى ليس علينا في من لم ينزل عليهم كتاب سبيل فيقولوا ليس علينا حرج في أموال العرب لأنهم امِّيِّينَ، قد أحلها الله لنا ولم ينزل علينا حكما في شأنها.
فالمعنى اللغوي لكلمة (الأمّي) ليس هو عدم القراءة والكتابة كما زعم جماعة أهل السنة بل يفهم هذا ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ﴾ أي الذين انزل عليهم كتاب والى الذين لم ينزل عليهم كتاب، وهذا هو التفسير الحقيقي لمعنى الأمّي.
وقد جاءت في سورة البقرة ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ فهذه الآية لا تحتاج إلى تفسير بل تكون قرينة لوضوحها على فهم بقية الآيات الأخرى حيث قال تعالى ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾ ثم اتبعها لبيان ذلك وسبب الأمُية هي أنهم لا يعلمون الكتاب إلا أماني أي لا يعلمون ما انزل عليهم من كتاب لذلك وصفهم الله بالأمّية.
وهذا هو المعنى الثاني للأمية ومنه يفهم قوله تعالى ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ فالأمِّيُّونَ هم الذين لم يطلعوا على كتاب من قبل ولم ينزل عليهم ولم يأتهم نبي بتعاليم دينية وكونه منهم أي من هؤلاء أي من أنفسهم لا غريب عليهم مثل قوله (الْأُمِّيَّ) فنسبة الأمّية إليه باعتباره من هؤلاء وكلاهما لم ينزل عليهم كتاب فهو أُمِّيَّ وهم أُمِّيِّينَ، فمن يقول إن النبي فقط هو الْأُمِّيَّ بمعنى لا يقرأ ولا يكتب، هاهم قومه أيضا لا يعرفون الكتابة والقراءة فهم أيضا أُمِّيِّينَ.
فما هي الميزة أو المعجزة إذا في كون النبي أُمِّيَّ مادام قومه هم ُ أُمِّيِّينَ كذلك وقد قال تعالى ﴿مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ﴾ وقال له أيضا ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ نستخلص من كل ذلك أن روح القرآن بعيد كل البعد عن تلك الجهة الاصطلاحية التي يراها القوم في معنى الأمّية والقرآن الكريم لما ذكرهم ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ فعالج المشكلة بقوله تعالى ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ ونفهم من هذا السياق أن سبب أمُيتَهم هي عدم معرفتهم بالكتاب وعدم التزكية لنفوسهم وليس في عدم معرفتهم بالقراءة والكتابة ولأجل هذا الداء جاءت الرسالة بذلك الدواء.
التعليقات على الموضوع (1)