مفهوم الذبح والقطع والقتل فى النص القرءانى
ضمن محاولتنا تقديم بعض التطبيقات على المنهج اللفظى الترتيلى، هاهى المحاضرة الثالثة والتي نحاول فيها فهم بعض دراسة سريعة للآيات التى اعتمدت فى تراكيبها اللغوية على مشتقات الجذور الثلاث: ذَبَحَ / قَطَعَ / قَتَلَ. ومحاولة استنطاق النصوص التى تشكلت بناءًا عليها وشكلت بالتالى مادةً تعرض لها ارباب اللغة والمفسرون عبر القرون بمختلف التحليلات ... ادعو الله ان نكون وفقنا لتقديم فهم جديد يمكنه ان يكون ضمن ما تستوعبه الكلمات المكونة للنص من جهة وضمن ما تقبل به قوانين المنطق الانسانى الفطرى من جهة ثانية ودون ان نحتاج إلى لىّ اعناق الآيات والله ولى التوفيق.
فقد ذكرت فى المحاضرة السابقة أن الأفعال المتعدية فى النص القرءانى تزحف وتلتصق بجزء معين من المعانى الواسعة التى تحفزنا لأن نعيد النظر فى كثير من الفهم الموروث لكثير من الآيات القرءانىة التى تعددت تأويلاتها وتفاسيرها.
فعلى سبيل المثال الفعل المتعدي "شَنَقَ" وتأثيره على تكملة الجملة. فحينما يُصدر القاضى حُكماً بالشنق وفقاً لقانون العقوبات الجنائى يتوجب عليه أن يوضح الحدود القصوى للشنق كأن يقول:" حكمنا على المتهم الفلاني بالإعدام شنقاً حتى الموت"، أي أن السلطة التنفيذية ستكون مسؤولة عن تنفيذ الحكم بما يؤدى إلى الموت كأن تُعيد أو تُطيل مدة تعليق المُدان على المشنقة حتى تفارق روحه جسده. بينما إصدار حُكم الموت لا يحتاج إلى تعيين للحدود القصوى.
فالآية الكريمة التى تقول: (...مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعًا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعًا... ٣٢) المائدة
فهنا تحديداً لأمرين فى القتل المرفوض، الأول قتل إماتة، والثاني قتل ابتدائى وليس عقوبة. فالنص لم يقل "قتل" فقط ولو قال ذلك لشملت الآية كل درجات القتل.
وتتمحور هذه المحاضرة على ثلاثة أفعال متعدية اعتبرها من "أخطر الأفعال القرءانية المتعديّة" وهي الذبح والقتل والقطع.
- فالذبحُ، بما توصلت إليه من مفهوم هو " استهلاك طاقة أخرى من أجل هدف معين".
- والقتلُ هو " التقليل من فعالية طاقة أخرى من أجل هدف معين".
- أما القطعُ، فهو "وضع حد على الشيئ يتراوح بين التصور والفعل".
وأستشهد هنا بسورة الصافات التى تقول:
(رَبِّ هَبۡ لِي مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ١٠٠ فَبَشَّرۡنَٰهُ بِغُلَٰمٍ حَلِيمٖ ١٠١ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡيَ قَالَ يَٰبُنَيَّ إِنِّيٓ أَرَىٰ فِي ٱلۡمَنَامِ أَنِّيٓ أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰۚ قَالَ يَٰٓأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُۖ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰبِرِينَ ١٠٢ فَلَمَّآ أَسۡلَمَا وَتَلَّهُۥ لِلۡجَبِينِ ١٠٣ وَنَٰدَيۡنَٰهُ أَن يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ ١٠٤ قَدۡ صَدَّقۡتَ ٱلرُّءۡيَآۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ ١٠٥ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡبَلَٰٓؤُاْ ٱلۡمُبِينُ ١٠٦ وَفَدَيۡنَٰهُ بِذِبۡحٍ عَظِيمٖ ١٠٧ وَتَرَكۡنَا عَلَيۡهِ فِي ٱلۡأٓخِرِينَ ١٠٨) الصافات
حيث تدور هذه الأحداث حول النبى إبراهيم (ع) وفكرة ذبح ابنه التى اتفق عليها غالبية المفسرين، بأن إبراهيم قد رأى مناماً مفاده أن يذبح ابنه كما تُذبح الأنعام وأن الإبن قد طلب من والده تنفيذ هذا الأمر الذى اعتبره إلهياً وأنه سيصبر على عملية الذبح، غير أن الملائكة أفهمته بأن الأمر قد أُلغى وجاؤوه بخروف كى يذبحه. ومن هنا أُخذ تقليد ذبح الأغنام فى موسم الحج.
أما من وجهة نظرى فأرى أن هذا القصص يدور مفهوم مختلف، فحينما كان إبن إبراهيم يعمل مع والده فى بناء البيت الحرام بهدف توحيد الناس والابتعاد عن عبادة الأصنام شعر إبراهيم أن ابنه غير مسؤول عن رؤياه الشخصية. ثم أيقن أن ولده مرهق بالعمل من دون مسوّغ أخلاقى أو شرعى لذلك خاطبه بالقول: (أَنِّيٓ أَذۡبَحُكَ)، أي أنني أرهقك بالعمل فى هذا الهجير.
وأعتقد أن مفهوم "الذبح" الذى نستعمله اليوم هو نفسه حينما نقول: "أن فلاناً ذبح ابنه فى العمل ولم يقدِّر طفولته مثلًا".
وحينما ردّ عليه الإبن: (قَالَ يَٰٓأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُ). فإن هذه الجملة توحى بأن "الإبن كان يؤمن بأن عملية بناء البيت الحرام هي أمر الهى ولا حيلة لأبيه إبراهيم بالأمر". أما جملة (سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰبِرِينَ) فإنها تتضمن الإشارة إلى العمل الشاق الذى يقومان به فى الصحراء بناء على رؤيا شخصية تبدو غير مقبولة.
إذاً، فأرى أن الناس الذين كانوا يقصدون الكعبة إنما كانوا "يذبحون" أنفسهم متحمِّلين عناء السفر كى يمارسوا تلك الشعائر التى ابتكرها إبراهيم. فهذا هو معنى الذبح وليس عملية الذبح التى نعرفها.
كما سيتم توضيح الفرق بين القتل والتقتيل، إذ أن وصف القتل هو "محاولة التقليل من طاقة الشيئ دفعة واحدة أو فى مسعى واحد".
أما التقتيل فهو " تجزئة فعل القتل إلى أجزاء أصغر وتكرار إيقاعه".
وكذلك القطع والتقطيع، فالقطع يعنى " وضع حد للشيئ دفعة واحدة".
أما التقطيع فهو " تجزئة فعل القطع إلى أجزاء أصغر وتكرار إيقاعه".
ومثلما أسلفنا عن الذبح فهو "محاولة استنزاف أو استهلاك طاقة أخرى من أجل هدف، دفعة واحدة".
بينما التذبيح يعنى "تجزئة فعل الذبح إلى أجزاء أصغر وتكرار إيقاعه".
ومن المعلوم أن المبادئ العامة للقوانين الجزائية العربية والغربية تتميز بثلاث صفات وهي شرعية العقوبة وقضائيتها وعدالتها. وهذا يعنى أن عدالة العقوبة يجب أن تتناسب مع الجرم من جهة، كما أن البدء يجب أن يكون مع العقوبات الأقل، ثم تشديدها كلما تكرر الفعل الجنائى من قبل الجانى.
ففى ما يُسمى بأية "الحرابة" مثالاً. فالتسلسل الوارد فى عقوبة المحارب لله والرسول هو كالآتى:"التقتيل، التصليب، تقطيع الأيدى والأرجل من خلاف والنفى من الأرض".
فإذا كان التقتيل يعنى الإماتة فهذا يعنى أن العقوبة قد بدأت بالأشد. وإذا بدأت الآية بالأشدّ فما معنى تخفيف العقوبة بعد الإماتة؟
ووفقاً للمنهج اللفظى الترتيلى الذى يقدّم فهماً جديداً للنص القرءانى فإننى أرى أن "التقتيل" هو أخف العقوبات، و "التصليب" هو أشدّ منه، وتقطيع الأيدى والأرجل هو أشدّ من العقوبتين السابقتين، أما النفي من الأرض فهو أشدّها جميعا كما ورد فى سورة المائدة:
(إِنَّمَا جَزَٰٓؤُاْ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوٓاْ أَوۡ يُصَلَّبُوٓاْ أَوۡ تُقَطَّعَ أَيۡدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَٰفٍ أَوۡ يُنفَوۡاْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡيٞ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ٣٣) المائدة
فالتقتيل هو محاولة تكرار عملية التخفيف من طاقة المخالف سواء خلال مرة واحدة من وقوع الفعل أم كلما كُرر الفعل المخالف للقانون. فإذا كُرر الفعل ولم ينفع معه التقتيل رُفعت العقوبة إلى التصليب، وإذا لم ينفع معه التصليب ارتقت العقوبة إلى تقطيع الأيدى والأرجل من خلاف، وإذا لم ينفع معه التقطيع تُقام له محكمة كى تُصدر عليه حُكماً بالسجن.
وبحسب القراءة المنهجية الجديدة للنص القرءانى فإن مفهوم "التصليب" هو بالضبط كما جاء سورة طه (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمۡ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخۡلِ) أى على جذوع النخل. وهذا المفهوم العام الذى نستعمله حينما نقول:" ذهبنا الى الإدارة الفلانية وصلبونا فى الباب أكثر من ساعة".
أما مفردة "الأيدى" التى وردت فى الآية الكريمة السابقة لا تعنى الأيدى البشرية الحقيقية التى نعرفها، وإنما هي وسائل تنفيذ الإرادة كأن نسمّى الجيش "يد" الدولة، والشرطة "يد الحكومة".
كما أن الأيدى تعنى "المال" كما جاء فى سورة المسد (تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٖ وَتَبَّ ١ مَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُ مَالُهُۥ وَمَا كَسَبَ ٢).
كما أن مفردة الأرجل يمكن فهمها على أنها وسيلة للإنتقال. وأرى أنها سميت أرجلاً لأنها تشير إلى عملية الرُجُول وهي الحركة والانتقال.
أما القطع فيعنى وضع أكثر من حد للشيئ. كما قد يكون التقطيع فى سورة يوسف هو مجرد جروح بسيطة لا غير. وأن التقطيع فى سورة الحرابة لا يعنى القص أو البتر أو البتك وإنما جملة المفاهيم التى أشرنا إليها سلفا.
أما العقوبة الرابعة والأخيرة فهي "النفي من الأرض" وتعني العزل عن المجتمع إما بالإبعاد إلى بلد آخر أو بالسجن وهذا المعنى مطابق لما توصل إليه المنهج اللفظى الترتيلى.
ولتقريب الصورة هناك مثل يحدث حاليًا فى وقتنا الراهن، حيث تخرج مجموعة من الناس فى مظاهرة غير مرخّصة وتقوم بإتلاف الأملاك العامة وتطالب بإسقاط الحكومة والنظام حينها تبادر الحكومة إلى تخفيف الاحتقان بواسطة تشجيعهم على التعبير عن مطالبهم بطريقة أخرى، وإذا لم ينفع معهم التشجيع فإنها تبادر إلى "التقتيل" ويعني التفريق إما بمطاردتهم أو رشهم بالمياه أو ضربهم بالغازات المُسيلة للدموع.
وإذا لم ينفع هذا الإجراء فإنها تقوم بـ "تصليب" بعضاً منهم، والتصليب هنا يعنى الاعتقال أو الحجز لمدة قصيرة. وإذا لم ينفع هذا الإجراء فإن الأجهزة المختصة تقوم "بقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف" أى تفرض عليهم غرامات مادية وتفرض عليهم الإقامة الجبرية من دون حرمانه من الوصول إلى أمواله لأن القصد ليس الانتقام وإنما الضبط والردع.
وإذا لم تنفع الطرق الأربع أعلاه فيُحال الشخص إلى المحكمة التى قد تحكم عليه بالسجن أو الإبعاد إلى بلد آخر.
وهذه الفقرة الدستورية الواردة فى النص القرءانى قد أصبحت معقولة وقائمة على التدرّج من الأقل والأخف إلى الأشدّ والأقسى.
ومن هنا نصل إلى أن معنى ءاية (وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلًا مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ٣٨)
حيث تشير إلى عقوبات مالية أو سجن ولا يعنى بأى حال من الأحوال القطع أو البتر أو البتك.
نتمنى لكم مشاهدة مثمرة
التعليقات على الموضوع (6)