مفهوم القتل فى النص القرءانى
لماذا نبحث عن معنى القتل تحديدًا فى النص القرءانى؟ والجواب على هذا السؤال ان الاستهتار بأرواح الناس، وممارسة القتل باسم الدين والقرءان قد بلغ ذروته ولابد لنا أن نعرف أصل هذا الأمر وحقيقته. فالمعروف أن الأديان السماوية تأمر بقتل الأعداء وأن الإسلام هو أحد هذه الأديان مما أدى إلى النفور من هذه الأديان عامة والإسلام خاصة.
والشائع أن هناك أوامر قاسية تحث المسلمين على "القتل والجلد والبتر وتزويج الأطفال" وهذه كلها تحتاج إلى أدلة دامغة للتأكد من التفسيرات وصحة الأحكام الرائجة. ولعل أبرز هذه الأحكام السائدة هي أن القرءان يأمر بالقتل وبقطع يد السارق، وصلب المفسدين، وبتر أيديهم وأرجلهم من خلاف، وهذا يؤدي بطبيعة الحال إلى النفور من هكذا دين، فما هي حقيقة هذا الإدعاء.
وأغلبنا يشاهد صور مروّعة للقتل والصلب والشنق وإباحة الدماء بواسطة التفجيرات التى يقوم بها من يبيحون دماء أتباع الديانات الأخرى وبعض المتطرفين يبيحون أيضًا دماء المسلمين! فهل يعني هذا أن المسلمين المتطرفين غير قادرين على التعايش مع أتباع الديانات الأخرى سواء السماوية أم غير السماوية على أساس المواطنة؟ فهل يمكن تغيير هذه الصورة النمطية أم لا؟
هناك خمس ءايات قرآنية تم توظيفها لتبرير القتل فى الماضى والحاضر نذكر منها:
(وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ وَلَا تُقَٰتِلُوهُمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِيهِ فَإِن قَٰتَلُوكُمۡ فَٱقۡتُلُوهُمۡ كَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ ١٩١) البقرة
فيما تقول الأية الثانية
(وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ ٢٤٤) البقرة
أما الآية الثالثة فتقول
(فَلۡيُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشۡرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِ وَمَن يُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقۡتَلۡ أَوۡ يَغۡلِبۡ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمًا ٧٤) النساء
والهدف من هذا البحث والفرضية المراد اثباتها هو زعزعة اليقين بالمفهوم السائد عن معنى الجذر "قَتَلَ" فى السياقات القرءانىة والقاضى بأن معنى القتل هو فقط (الإماتة). والتأكيد على المعنى المفهومى للألفاظ و (القتل) هو أحد هذه الألفاظ التى تحتاج إلى قرينة واضحة لربطها بمصداق محدد.
كما أن فرضية البحث المراد اثباتها هنا هى أن معنى الجذر "قَتَل" هو (خَفَفَ من طاقة شيئ أو ضيّق عليه أو كبح من جماحه وربما قضى عليه).
أما منهجية البحث فهى معالجة مفهوم القتل بالطرق الأربع الآتية:
* التحليل المباشر لمعنى الجذر "قَتَل" من خلال معاجم اللغة.
* التحليل غير المباشر عبر ملاحظة ثوابت الطريقة القرءانية فى البلاغة والدقة والمصطلحات المحددة.
* تحليل على مستوى الفرق بين طبيعة الفعل اللازم والفعل المتعدى.
* مقارنة الجذر ”قَتَل “ مع جذور أخرى.
وردت مشتقات الجذر "قَتَلَ" فى النص القرءانى (176) مرة وقد تم وضعها تحت ستة عناوين رئيسة وهى (قتل الحيوانات، قتل النفس، قتل ضمن العائلة، قتال بين الناس من المسلمين، قتال بين المسلمين، غير المسلمين ومصير بعض المقتولين).
وقد ورد حسب بعض اللغويين معنى القتل بمعنى (الإماتة) والبعض الآخر بمعنى (الإذلال والتقليل والبخع والكبح وكسر الشِدة، مما يمكن وصفه بأنه تقليل من طاقة الشيئ أو السيطرة على تلك الطاقة). غير غالبية الناس ترجح المعنى الأول. ولم يرجح أرباب اللغة المعنى الثانى للجذر"قَتَلَ"؟
أما الفرق بين المعنين: فالمعنى الثاني وهو (الإذلال) يعتبر أشمل من الأول الذي يقتصر فقط على نوع واحد من ذلك الإذلال ودرجة منه. أما المعنى الأول وهو (الإماتة) يعتبر اقتصارًا على جزء من معنى اللفظ وتفسير القتل فى أى نص على أنه إماتة يحتاج الى قرينة واضحة أو دليل منطقى أو لغوى. كما أن الوقوف عند (الإماتة) يضعنا، أمام عُقد غير قابلة للحل عند تناول بعض النصوص القرءانية. كما أن الوقوف عند المعنى الأول وهو (الإماتة) يجعلنا نقع فى ظاهرة الاختلاف التى ينفيها القرءان عن نفسه إذ أن تفسير بعض الآيات التى تتحدث عن القتل بأنهُ إماتة يجعلنا نقف على النقيض من بعض الآيات الأخرى أو مع مبادئ المنطق الفطرى.
ولذا أرى أن معنى القتل وهو (قَتَل بمعنى: حاول أنْ يكبحَ جماحَ شيئ أو يقلل من طاقتهِ بدرجات مختلفة قد تصل فى بعض الأحيان إلى الإماتة والإهلاك والإنهاء كما فى حالة قتل النفس).
وبالعودة إلى (الفعل اللازم والفعل المتعدى) وكيف يفرّق علماء النحو بينهما فالفعل اللازم: (هو الفعل الذي يستقر حدوثه فى فاعله ويكتفى برفعه ليتم معناه. ماتَ / ضل / مَرِضَ / نامَ) أما الفعل المتعدى فهو (الفعل الذي يتجاوز فاعله وينصب مفعولًا به ليستكمل معناه. ضربَ / رسمَ / كتبَ / قطعَ) كما فى القاعدة المشهورة فى التفريق بين النوعين تعتمد على اضافة الهاء والكاف إلى الفعل فإذا قبلها فهو متعدٍ وإذا رفضها فهو لازم.
وهذا يقودنا إلى أن الفعل (قَتَل) فى خانة الأفعال التى تحتاج إلى مدى وميدان للتحرك، وبدرجات متفاوتة لأنهُ فعل متعدٍ يختلف عن فعل الموت أو النوم مثلًا وهى أفعال تحدث بقدر متساوٍ ومرة واحدة. فالفعل المتعدى يمكن يقبل باشتقاق صيغة المفاعلة التى لا يقبلها الفعل اللازم كأن تقول: (تكاتب الرجلان / تقاتل الفارسان). وهذا الفرق بين النوعين من الأفعال يمكن الاستفادة منه بنفس طريقة الاستفادة من الضمائر" هاء" و"كاف" للتفريق بين النوعين.
وكون الفعل "قَتَل" هو فعل متعدٍ يجعله لا يقف على معنى واحد محدد بدرجة واحدة، وإنما هو يحتاج، كسائر الافعال المتعدية، إلى مدى يتحرك فيه ويرغب المتلقى فى معرفة ذلك المدى. وهذا يجعلنا مفعمين بالأمل فى حصولنا على نتيجة إيجابية من قضية رفض المعنى الدارج "المحدود"عن "القتل" على أنه "إماتة". وهذا الأمر سيتيح لنا فهم المعانى ضمن سياقاتها بدقة كبيرة.
وعند النظر إلى الفعل "قتل" على أنه فعل متعدٍ يجعلنا نبحث دائمًا عن الحدود التى يقع فيها ومقدار قوة هذا الفعل وشدة تأثيره فى المحيط. وهنا بعض الآيات القرءانية التى تؤكد صحة ما نذهب إليه مثل:
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمًا ٢٩) النساء
(وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبۡرَٰهِۧمُ بَنِيهِ وَيَعۡقُوبُ يَٰبَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ ١٣٢) البقرة
ونستنتج هنا أن "القتل" متعدد المديات والأوجه بينما "الموت" واحد. ومن مقارنة المثالين نرى أن الآية الثانية تتحدث عن موت واحد بينما تتحدث عن ملايين الإحتمالات فى قتل المؤمنين أنفسهم فى سبيل المال ومحاولة التغلب على الآخر والاستيلاء على أمواله مثلا. وبالنتيجة يمكن أن نخلص إلى أن المعنى المقصود فى العبارة (وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ) الواردة فى آية سورة النساء هو ليس "الإنتحار" وإنما تسليط ضغوط غير محبذة على النفس وكسر حدتها فى مسعى للحصول على المال وسواء كانت هذه النفس ذاتيه أم نفس أخرى من المجتمع.
وهذه بعض النماذج التى تتيح إمكانية استعمال التعريف الأوسط نطاقًا للقتل والتحقق من إمكانية ذلك فى مساعدتنا لحل مشاكل استعصت على المفسرين من قبل:
* قتل الأولاد والأبناء واشتراط أنْ لا تقتل المؤمناتُ أولادهن.
* القتل الذي أمر موسى قومه بأن يمارسوه بعد عبادة العجل.
ثم سنتطرق إلى قتل الأولاد خشية إملاق. ونتوقف عند معنى "الوأد" بالإستشهاد بالأية الكريمة التى تقول (وَإِذَا ٱلۡمَوۡءُۥدَةُ سُئِلَتۡ ٨ بِأَيِّ ذَنۢبٖ قُتِلَتۡ ٩) التكوير
فهل تتحدث هذه الآية عن البنت التى دفنها ابوها حية؟ لا أعتقد لعدة أسباب منها أن السياق يتحدث عن أجواء يوم القيامة والوأد ليس من أمهات الأمور قياسًا بما فعل عتاة المجرمين والكفرة. إضافة إلى أن البنت التى وئدت لا تدرى لماذا حصل لها هذا، فلماذا تُسأل هي ولماذا لم يكن الخطاب لمن وأدها؟
فأرى أن معنى الموءودة المشتقة من الفعل "وَأَدَ" ومعناه: أثقل، وغطى بثقل. هو:"النفوس التى وأدها أصحابها" لأن عبارة (وَإِذَا ٱلۡمَوۡءُۥدَةُ سُئِلَتۡ) جاءت بعد عبارة (وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتۡ) بمعنى أن النفوس جرى ترتيبها بطريقة زوجية بناًء على معايير معينة ثم جرى طرح السؤال على النفوس الموؤدة. وبذا يكون السؤال إلى النفس التى وأدها صاحبها منطقيًا باعتبار أن السؤال بالنتيجة موجه إلى ذات الشخص المكلف والمسؤول عما قرره فى حياته الدنيا.
نتمنى لكم مشاهدة مثمرة
التعليقات على الموضوع (4)