مفهوم شهادة المرأة
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴿282﴾﴾ سورة البقرة
الكلمة التي تهمنا في مفهوم الاية هو كلمة تضل وهي لا تعني تنسى. وسنحاول أن نفهم أو نقترب من فهم هذه الكلمة من خلال ورودها بآيات وسياقات تبين لنا مفهوم الكلمة. وبدايةً فإن عكس هذه الكلمة هى كلمة يهدي، وضلالة عكسها هداية.
والآن نأتي إلى الآيات: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴿8﴾ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴿9﴾﴾ سورة محمد
ضلت أعمالهم لم تعد موجودة وأصبحت هبائاً منثوراً وأُحبطت واختفت. يعني لم تعد موجودة.
﴿ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ ﴿73﴾ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ﴿74﴾﴾ سورة غافر
سألهم الله أين الذين كنتم تدعونهم وتشركون بهم؟ فكان جوابهم أنهم قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا، فكانت أسماء لا علم لهم بها ولم تكن موجودة، وبدايةً قالوا ضلوا عنا أي لم يعد يرونهم ولا وجود لهم. وهذا هو المعنى المصادق للآية أعلاه كما ذكرتها، والتي تعني عدم وجود الشيء فهو تائه أو مُحبط وحسب السياق، وكله يفيد بعدم توفر الشيء.
﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ ﴿51﴾ قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ﴿52﴾﴾ سورة طه
سأل فرعون موسى عن القرون الاولى فكان جواب موسى أن كل شيء عند الله بكتاب مكتوب فيه كل ما جرى ولم يكن الله ناسياً لشيء لم يحفظه من أنباء السابقين، وكل شيء كبير وصغير مستطر. وقال أيضا أن الله لايضل أي لم يكن غير موجود في أي حدث يحدث في الدنيا وهو العليم الخبير موجود في كل مكان لا يضل أبدا وحاشاه ذلك.
وقد وردت الكلمتان لا يضل ولا ينسى متتابعتين وهذا دليل قوي جداً على أن الكلمتان لهما مفهومان متقاربان، ولكن لكل واحدة منهما مفهومها واستقلالها.
﴿وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ۚ بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ﴿10﴾﴾ سورة السجدة
قالوا إذا ضللنا في الأرض أي لم يعد لهم وجود وأصبحوا تراباً مخفيين عن النظر للاحياء ومدفونين، فهم قد ضلوا في الارض بعد موتهم.
وأيضاً قالوا: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴿7﴾﴾ سورة سبأ
مزقتم كل ممزق لم يعد لكم وجود وأصبحتم تراباً وهي تفيد نفس الفهم.
والآيات كثيرة جداً في أن الضلال سواء ضل عن الطريق لم يعد موجوداً على الطريق أو الصراط المستقيم، أو لم يعد موجوداً للحاظرين وكل ذلك ضلال وليس نسيان.
إذن موضوع أن المرأة تنسى أكثر من الرجل هو فهم باطل، ولا يصادق عليه مفهوم الكلمة في كتاب الله أولاً ولا يصادق عليه الواقع ثانياً. لإننا نرى أن المرأة لا تنسى كما هو موروث فمنهن من تنسى مثل الرجل ومنهن من ذاكرتها أقوى من ستين رجلاً، وحسب خلق الله لكل بشر وما أتاه من قدرات.
نأتي الآن الى صياغة السياق الذي ورد في الآية التي نتناولها هنا. وأحب أن اذكر أن خطاب القرءان وصياغة الجمل في القرءان هو ليس كما نعلمه من قواعد اللغة، فهو أقدم وأصح وله أسلوبه الذي لانرى أحداً يكتب بنفس صياغته. وقد كان هذا هو لسان من نزل عليهم القرءان وكانوا يعلمونه حق علمه ولكن يكفرون به، فلا نجد آيات تقول أنهم لم يفهموا حديثه بل يكفروا به فقط.
﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴿282﴾﴾ سورة البقرة
وهناك آية مشابهة في البناء تقريباً توضح لنا هذا الاسلوب في القرءان.
﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ﴿42﴾﴾ سورة يوسف
فالشيطان أنسى هذا الذي نجى الذكر الذي وصاه به يوسف، يعني ذكر ربه هو أمانة من يوسف وهي ذكرى للملك بقصة يوسف، ولكن الشيطان أنسى هذا الذي نجى ذكر ربه من يوسف فلبث يوسف سنين آخرى.
﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ﴿45﴾﴾ سورة يوسف
وادكر بعد أن نسي ما وصاه يوسف من ذكر لربه الملك.
ونعود لآية الشهادة:
أن تضل احداهما ويعني ذلك أن احداهما قد يتعذر عليها الحضور فتكون غير موجودة في يوم دعوة الشهداء. لأسباب كثيرة قد تصيب المرأة أكثر من الرجل. وهذه آية نراها الى اليوم فأحياناً متاعب الحمل وأحياناً مرض الأطفال والاعتناء بهم وغيرها من المعوقات. فالله أراد رحمة بها على عكس الرجل فإنه ذو قابليات أعلى من ناحية المقدرة، فالله وضع عليه تكاليف أصعب من المرأة فمثلاً القتال لم يكتبه الله على النساء. فعندما يعطي الله شيئا لعبده فيكلفه على مقدار ذلك العطاء، مثلا الغني ينفق ليس كما ينفق المُقدر عليه رزقه وهكذا في كل شيء. إلا أنهم متساويين من ناحية النصيب فلكل نصيب مما كسب فالذي ينفق نصف ماله هو مكتوب عند ربه أنه انفق نصف ماله الذي قدره مائة ألف، والذي ينفق نصف ماله وهو يملك مليون هو مكتوب عند الله أنه انفق نصف ماله، والله لا يكلف نفساً الا وسعها وهو أرحم الراحمين.
على كل حال فالمرأة إن ضلت ولم تكن موجودة فتذكر إحداهما الآخرى وكلمة تذكر تعني انها تقول بما شهدت مكان الاخرى. وقد سبقت الآية كلمة أن تضل إحداهما وهو احتمال أن لا تستطيع الشاهدة أن تأتي فتكون الآخرى هي الشاهدة وتذكر ما شهدت بالحق.
ولم يقل الرحمن أن تنسى إحداهما وهذا ما فهمته من الآيات وأراه مصادقاً للواقع وفيه حرص كبير على إقامة الشهادة بالحق ورحمة للمرأة وليس إنتقاصاً من عقلها، وعلى العكس المرأة معروفة بدهائها أو كيدها بغض النظر إن كان هذا الكيد في الخير أو الشر ولكنهن صاحبات كيد وعقل متقد وليس كما يظن أتباع السلف الذين لا يعترفون بكتاب الله ولا بأي علم آخر.
والحمد لله رب العالمين الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
التعليقات على الموضوع (5)