ذكر الهيكل فى القرءان
قال تعالى (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبًا وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيًّا ٤) سورة مريم
في الآية السابقة ورد فعلان ماضيان هما: (وهن) و (اشتعل).وورد كذلك إسمان هما: (العظم) و (الرأس).
وقد حدثنا علماؤنا الأفاضل كما هم أيضا قد قيل لهم ذلك، بأن الكلام في هذه الآية هنا يعود إلى المتحدث وهو نبي الله زكريا بأن عظمه قد ضعف وامتلأ رأسه بالشيب ثم توقفت أحاديثهم عند هذا الحد!!. وهذا المعنى الذي قالوه لنا نقلا يشوبه إلى حد ما كثير من الصحة ولكن بعد التوقف للتدبر إتضح أن ما قيل لنا ليس هو فقط المعنى الوحيد لهذه الآية بل هناك معان أخرى تشير إليها الآية في تركيبها اللغوي.
دعونا نستعرض المشتق من كلام (العظم) و (الرأس) (وهن) و (اشتعل) في الآيات التي وردت فيها هذه الكلمات لعلنا نتمكن من إيصال بعض تلك المعاني التي خلصنا إليها:
1- مشتقات كلمة (العظم) هي: (عظم – عظام – العظام - عظيم – العظيم – أعظم )
2- مشتقات كلمة (الرأس) هي: (رأس – الرأس - رؤوس)
3- مشتقات كلمة (وهن) هي: (وهن – وهنوا – أوهن - تهنوا)
4- مشتقات كلمة (إشتعل) هي: (إشتعل)
سؤال: ماذا نفهم من مدلولات كلمة (رأس) في الآيات الكريمات وعند الناس؟
جواب: نفهم ما يلي:
مفاهيم متعارف عليها بين الناس
أن الرأس في الإنسان هو أعلى شيء. أعلى مكانة ومكانا. فلا شيء منه يعلوه إلا الشعر. وأما مكانته فلإحتواءه على وجه الإنسان وجميع منابت الإحساس والإدراك فيه. واشتق منه الرئيس والرئاسة والمرؤوس ورأسيا.
مفاهيم مستمدة "حصريا" من ءايات القرءان العظيم
أن الرأس يحلق. أن من الرأس ما يصيب بالأذى. أن الرأس يؤخذ ويجر. أن الرأس يحمل فوقه. أن الرأس يؤكل منه. أن الرأس يشتعل. أن الرأس يصب فوقه. أن رأس جمعه رؤوس. أن الرؤوس يمسح بها. أن الأموال لها رؤوس. أن الرؤوس تنغض. أن الرؤوس ينكس عليها. أن الرؤوس تنكس. أن الشياطين لها رؤوس. أن الرؤوس تحلق وتقصر. أن الرؤوس تلوى. هذا كل ما نفهمه من الآيات الكريمات فيما يتعلق بكلمة رأس ورؤوس. أليس كذلك؟ ومن يرد الزيادة على ذلك من نصوص القرءان العظيم فليتفضل مشكورا.
ملاحظات مهمة جدا:
1- أن كلمة (رأس) لوحدها وردت في كل الآيات في حالة من القول نكرة.
2- أن كلمة (رأس) في كل الآيات تحتل موقع المفعول به.
3- أن كلمة (الرأس) في الآية (4) من سورة مريم هي الكلمة الفريدة والوحيدة في القرءان العظيم التي وردت معرفة بـ ( أل ) وفي ذات الوقت إنفردت بأخذها موقع الفاعل من الآية.
4- ولإن كان كلمة الرأس هنا تدور في جذرها حول نفس المفهوم إلا أنها تشير في ذات الوقت إلى رأس معينة ومحددة بذاتها (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبًا وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيًّا ٤) سورة مريم ،
5- أما كلمة (إشتعل) فلم ترد في قرآن الله العظيم في أي موضع آخر خلاف هذه الآية الكريمة ، ومعناها المجازي المتداول فيما بيننا لا يفيد لا من قريب ولا من بعيد على فعل الإشتعال المتعلق بالنار لأن الله تعالى يقول (كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارًا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُ) وقال (نَارُ ٱللَّهِ ٱلۡمُوقَدَةُ) ففعل أوقد هو المناسب للنار وليس أشعل أو ألهب أو إنتشر. والنار في كل حال مفعول به لابد ممن يوقدها!!
تساؤلات:
ما سبب إرتباط الوهن بالعظم والإشتعال بالرأس في الآية؟ فهل العظم يهن بالمعنى المتداول لما نسميه مرض (وهن العظام) وهل وهن العظام يعني رقتها أو تلينها بعد أن كانت "صلبة" وهل الوهن دليل على التقدم في السن؟ فهناك حالات معاصرة تعاني مما نسميه بوهن العظام وهي لم تبلغ على الأقل سن زكريا كما أن هناك فئات من الناس يشيب شعرها قبل بلوغ السن التي بلغها زكريا ، ولعل كاتب هذا التدبر هو من هذه الفئة! أعود فأقول لنقرأ الآيات التالية بتمعن وتركيز:
1- قال تعالى (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٞ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسۡتَكَانُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّٰبِرِينَ ١٤٦) سورة ءال عمران.
2- (وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُ وَهۡنًا عَلَىٰ وَهۡنٖ وَفِصَٰلُهُ فِي عَامَيۡنِ أَنِ ٱشۡكُرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيۡكَ إِلَيَّ ٱلۡمَصِيرُ ١٤) سورة لقمان
3- (وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ ١٣٩) سورة ءال عمران
نفهم من الآية الأولى رغم أن الوهن نوع من الآثار الناتجة عن الإصابة إلا أنه ليس كأثر الضعف أو الإستكانة لورود كل منها في الآية بشكل مستقل. مما يعني أن الوهن والضعف إما أن يكونا شيئان مختلفان عن بعضهما تماما أو أنهما يمثلان مرحلة تطورية للآثار إبتدأت بالوهن مرورا بالضعف وانتهاء بالإستكانة! فلو سلمنا بهذه الفرضية فهل يمكننا أن نقول أن العظم فاعل للوهن؟ أم مفعول به؟ فإن قلنا أن العظم فاعل للوهن فالله تعالى يقول بغير ذلك (وَٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡعِظَامِ كَيۡفَ نُنشِزُهَا) أي أن العظام أو العظم مفعول به النشز وليس فاعلا له، وبالتالي نستنتج أن من قام بفعل الوهن ليس العظم وإنما هو فعل يصدر عن عاقل والعظم ليس بعاقل وهذا ما تصادق عليه الآيات الكريمات (فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمۡ) (وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ) أي أن الربيون المقاتلون ما قاموا بفعل الوهن لما أصابهم! أليس كذلك؟
بعد أن فرغنا من تحليل موجز لكلمة (وهن) في الآية الكريمة ننتقل إلى كلمة (العظم) وبناء على ما إستنتجنا بأن العظم ليس بعاقل إذن – نحن نتسأءل - كيف يمكننا القول بأن زكريا كان يشير في دعاءه إلى العظم بأنه قد وهن ، في حين أن العظم ليس بعاقل ليقوم بفعل الوهن؟ وللإجابة على هكذا تساؤل أقول لنقرأ الآيات التالية:
1- قال تعالى (وَسَۡٔلِ ٱلۡقَرۡيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا وَٱلۡعِيرَ ٱلَّتِيٓ أَقۡبَلۡنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ ٨٢) سورة يوسف. هل القرية عاقل يمكننا أن نسأله؟ أم هل العير عاقل هي الأخرى يمكننا أن نسألها؟ أم أن المقصود بالقرية هم سكانها (العاقلين) وأن المقصود بالعير هم ركابها (العاقلين) !!؟
2- قال تعالى (وَسَۡٔلۡ مَنۡ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلۡنَا مِن دُونِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ءَالِهَةً يُعۡبَدُونَ ٤٥) الزخرف. فهل هؤلاء الرسل المرسلين من قبل لا يزالون في وضع يسمح بتوجيه السؤال إليهم؟ أم أن المقصود هو سؤال الباقين (العاقلين) من أتباع أولئك الرسل !!!
وبما أن العظم غير عاقل كما إستنتجنا، فإن الله قد وهبنا العقل لنقيس به مدلولات الآيات السابقة على أن زكريا حينما قال (وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي) إنما كان يشير إلى مجموعة عاقلين قاموا بفعل الوهن نتيجة ما أصابهم من زكريا. وأن هؤلاء العاقلين يسكنون العظم ويعمرونه تماما كسكان القرية.
وأنا هنا أضيف القول بأن العظم هذا إنما هو بناء ديني له كيانه المستقل. وقد يكون مشيدا ماديا في شكل أسس يعلوها طوب وأحجار وبداخله غرف وحجرات. أو مشيدا معنويا كالهيكل التنظيمي للمؤسسة الدينية فيه رتب يعلوها رتب يعلوها أخرى كطلاب التوراة من كتبتها ودارسيها ومدرسيها وكهنتها.
وأنا هنا أزعم – أن هذا الهيكل التنظيمي أو هذا البناء (العظم) له قيادة توجهه وتعلو سدته وهي منه بمثابة الرأس من الجسد ، أعرب عنها زكريا في قوله (وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبًا)!!
كما أن الحديث عن العظم يجرنا بشدة إلى الحديث عن المحراب .... حيث أضيف أنا هنا وأقول بأن المحراب بناء مشيد تشييدا ماديا وله حدود ومحاط بسور وله فناء عملا بقوله تعالى (وَهَلۡ أَتَىٰكَ نَبَؤُاْ ٱلۡخَصۡمِ إِذۡ تَسَوَّرُواْ ٱلۡمِحۡرَابَ). وقد يكون المحراب تابعا للعظم أو مستقلا عنه. والمحراب هو المكان المخصص لإقامة قيادة العظم أو رأسه منذ داوود عليه السلام (إِذۡ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنۡهُمۡ) وقال عن زكريا (فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِ مِنَ ٱلۡمِحۡرَابِ) وقال عن مريم (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ).
ومن صفات المحراب الطهارة وطهارة ساكنيه الذين إصطفاهم الله من آل إبراهيم وآل عمران. ولطهارته وطهارة ساكنيه تتنزل فيه الملائكة بالرزق من عند الله وتتبادل الخطاب مع ساكنيه أخذا وردا ، فقال عن زكريا (فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٞ يُصَلِّي فِي ٱلۡمِحۡرَابِ) وقال عن مريم (وَإِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصۡطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلۡعَٰلَمِينَ) وفيه حصلت البشرى بعيسى (إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٖ مِّنۡهُ ٱسۡمُهُ ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ).
كما أستنتج كذلك ، أن المحراب مخصص لإقامة حملة رسالة التوراة وقادة الدين من الرجال فيه دون النساء وما كان تطهير مريم وإصطفاءها الثاني إلا لتأهيلها للإقامة فيه من دون نساء العالمين!! هذا هو المحراب في ضوء ما تدبرته من ءايات الذكر الحكيم ، فصفوا لي أنتم محرابكم!!
أما العظم فليس من الشرط أن يكون مكانا طاهرا مطهرا كالمحراب – ومن ذلك نستنتج أنه المحراب جغرافيا مفصولا عنه ولكن ليس بعيدا عنه – أما عن عدم شرط طهارة العظم فقد سبق معنا في حلقات (كيف ولدت مريم؟) أن أمرأت عمران كانت تخاطب ربها قائلة (إِذۡ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ عِمۡرَٰنَ رَبِّ) وهذا القول نلاحظ أنه لا يقابله رد مماثلا من ربها كما كان يحصل مع زكريا ومريم!! أليس كذلك؟ و(قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي وَضَعۡتُهَآ أُنثَىٰ) وهنا أيضا لم تقابل برد مماثل من ربها .....وفي الختام جاء الرد من ربها أفعالا وليس أقوالا (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٖ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) مما يعني أن إمرأت عمران حينما كانت تخاطب ربها إنما كان ذلك من خارج المحراب، ذاك المكان الذي تنزل فيه الملائكة. وإلا فما السبب – أنا أتساءل - في عدم رد القول عليها بالمثل وهي من هي من المكانة والأمومة: إمرأت أحد الذين إصطفاهم الله وأم أحد الذين إصطفاهم الله!!
خلاصة التدبر
أقول في خاتمتي والله أعلم أن هذا البناء (العظم) ما إنفرد بهذا الإسم المعرفة الوحيد أو نعت بهذا النعت الفريد في القرءان العظيم إلا لعظمة مكانته وتعظيمه من قبل القائمين عليه والمقيمين فيه والمترددين إليه وعظم ما يدور فيه من أمور. وأن نبي الله زكريا في حقيقة بث ربه شكواه ما كان يشكو ضعفا قد دب في عظمه (وليس في عظامه لاحظ) وأن شيبا قد إشتعل في رأسه (وليس في شعر رأسه لاحظ) وإنما كان يشكو حزنه على الحال التي آل إليها هذا البناء المشيد (العظم) منذ عهد آباءه المصطفين الأخيار ممن تعاقبوا على رئاسته وقيادته من إبراهيم مرورا بداوود وسليمان واختتاما بزكريا من آل يعقوب، وأن قيادة هذا العظم المعظم قد أوشكت على الإنتقال من (آل يعقوب) إلى (آل عمران) توطئة لتحقيق الإصطفاء الإلهي مما حدى بنبي الله زكريا إلى بث شكواه إلى ربه حين قال حزينا عليه السلام (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبًا وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيًّا ٤) سورة مريم
وأخيرا .....ترى هل سكان العظم إنصرفوا عن تعليم التوراة للناس وانشغلوا بجمع المال والتسويق لتعاليمهم الخاصة فابتلاهم الله بحب الدنيا وكراهية الموت؟ ثم أين مكان هذا العظم؟ أين مكان هذا المحراب؟ أ بناء تحدث عنه القرءان العظيم وبهذه الصفة الفريدة أيعقل لا يعلم عنه أحد؟ أيعقل أن يكون إختفى وتلاشى هكذا
أسأل الله العلي القدير أن يفتح علي من عنده باب علم ، إنه ولي ذلك والقادر عليه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
التعليقات على الموضوع (16)