كيف ولدت مريم - 3
قال تعالى ﴿... إِنّىِ نَذَرْتُ لَكَ مَا فىِ بَطْنِى مُحَرَّرًا ...﴿35﴾﴾ سورة آل عمران
فاصل تدبري لمعنى كلمة (بطن) ثم نسترسل مع ما تبقى من الآية العظيمة:
وردت كلمة (بطن) فى القرءان العظيم بصيغة المفرد وبصيغة الجمع (بطون). جميع الآيات التي وردت فيها كلمة (بطن) بصيغة المفرد كانت تشير إلى أشياء معنوية كالفواحش ما ظهر منها وما بطن، بينما لم ترد كلمة (بطن) لأشياء مادية إلا فى ثلاثة مواضع هي: بطن إمرأت عمران. وبطن الحوت. وبطن بعض الدواب. وبطن مكة! أما بطن مكة فموقع جغرافي مكشوف لمن يرى (آية 24 من سورة الفتح)، أما البطون بصيغة الجمع فجميعها تشير إلى أوعية مخصصة للأكل والشرب، إذًا نستنتج من ذلك أن البطن مكان للأكل والشرب وليس مكانا للحمل، بينما مكان الحمل فى المخلوقات هو الرحم وجمعه الأرحام وهو ما يصادق عليه القرءان العظيم.
دعونا هنا نطرح تساؤلا حول طرق قراءة هذه الكلمة بالتحديد (مُحَرَّرًا) محاولة الخلوص منها بتدبر قد يضفى بعدًا آخر من التعرف على مراد الله سبحانه وتعالى فى بعض الآيات الكريمات التي تحدثت عن آل عمران المصطفين الأخيار. فكيف يمكننا قرائتها؟ وللإجابة على هذا السؤال يوجد هناك تغيير فى حركة حرف (الراء) قبل الأخير فمرة يقرؤ مفتوحًا ومرة مكسورًا على النحو التالي:
أولاً: كلمة (مُحَرَّرًا): بفتح الراء:
(1) مُحَرَّرًا، إسم مفعول. وقع عليه التحرير (من الحرية) أي أصبح حراً والحر بمفهومنا العامى هو عكس العبد. ولكي يصبح الفرد منا حرًا لابد أن يكون قبل ذلك عبدًا وإلا لما إنطبق عليه معنى التحرير (بغض النظر عن نوع العبودية). وامرأت عمران هنا تتحدث عما فى بطنها أى عن مخلوق لا تعلم ماهيته (ذكر أو أنثى) ولكنها تعلم أنه تحت نوع من أنواع العبودية فهي نذرته لربها محرراً (أي بعد الولادة). أليس كذلك؟ أليس هذا ما نفهمه من الآية ؟
خلاصة أولى: وبهذا المفهوم المبسط فإن من يقع عليه التحرير فهو قبل التحرير ما كان محرر (مهما كان نوع قيده)، فهل يا ترى (ما فى بطنها) له علاقة بالعبودية أو الإستعباد وبالتالى هى تطلب تحرير ما فى بطنها من تلك العبودية. وإذا كانت خدمة المحراب تعتبر من باب القربى والعبودية لله فما بال إمرأت عمران تطلب إعتاق (ما فى بطنها) من تلك العبودية؟ أم ترى الآية ترمى إلى مقاصد أخرى تخالف ما عرفناه وألفناه؟ وفي تدبرنا التحليلى أعتقد أن هذا هو المعطى الأول: ما فى بطن إمرأت عمران (عبد) أو (مقيد) تطلب تحريره.
(2) مُحَرَّرًا، إسم مفعول. وقع عليه التحرير (من التدوين) أى أصبح محررًا أى مكتوبًا أى مدونًا. فهل يعقل أن إمرأت عمران حينما قالت (إني نذرت لك ما فى بطني محرراً) كانت تقصد ما فى بطنها هى كشخص؟ أم بطن شيء آخر كبطن دارها مثلا؟ على نسق قوله تعالى (ببطن مكة) فإذا كان مكة لها بطن فإن بطنها كما هو معروف حيز جغرافى مكشوف تراه العين وله حدود ومعالم يعرف بها. وبذلك نقيس عليه بطن امرأت عمران أى بطن دارها وهو حيز جغرافي كما فى بطن مكة
خلاصة ثانية: بهذا المفهوم المبسط فإن من يقع عليه التحرير فهو من قبل التحرير ما كان محرار أي قبل التدوين ما كان مدوناً. أى قبل الكتابة ما كان مكتوباً. ولكن السؤال الخطير: ترى ما هو المدون؟ أو ما هو المحرر؟ الذى نذرت امرأت عمران أن يكون ما فى بطنها هو؟ وهذا هو المعطى الثانى: ما فى بطن إمرأت عمران ليس مدوناً وتطلب تدوينه.
ثانياً: كلمة (مُحَرِرًا): بكسر حرف الراء الأول:
(1) مُحَرِرًا، إسم فاعل. يقوم بأحد الفعلين وهما (1) التحرير (من الحرية). أو (2) التحرير (من الكتابة والتدوبن). فإن كان من التحرير بمعنى الحرية ترى ما فى بطن امرأت عمران يحرر من؟ ومن ماذا يحرره؟. وأما إن كان التحرير (من التدوين او الكتابة) ترى ما فى بطن امرأت عمران ماذا يحرر؟ وهذا هو المعطى الثالث: (1) ما فى بطن إمرأت عمران يحرر . أو (2) ما فى بطن إمرأت عمران كاتب.
ملخص للمعطيات الثلاثة السابقة:
1- مُحَرَّرًا: (إسم مفعول):ما فى بطن إمرأت عمران عبد أو مقيد تطلب حريته
2- مُحَرَّرًا: (إسم مفعول):ما فى بطن إمرأت عمران ليس مدوناً وتطلب تدوينه
3- مُحَرِرًا: (إسم فاعل):ما فى بطن إمرأت عمران يحرر من العبودية والإستعباد
4- مُحَرِرًا: (إسم فاعل):ما فى بطن إمرأت عمران كاتب
ثلاثة معطيات يعقبها تساؤلات هى فى غاية الخطورة والأهمية أضعها أمامك عزيزي القاريء المفكر المتدبر فى آيات الله لنحاول معا تناولها من زوايا مختلفة أملًا أن نحاول رسم إطار عام نتخذه سبيلًا للوصول إلى شيء من علم الله المراد فى هذه الآية الكريمة من سورة آل عمران.
خلاصة التدبر:
أولًا: أنا من جانبي أقول والله أعلم أن إمرأت عمران كانت تخطط لمستقبل (ما فى بطنها) ، ولعلمها بأهمية العلم الديني وفضله وبناء عليه فهى تطلب من ربها قبول إلحاق (ما فى بطنها) بالسلك الكهنوتي لدى المحراب وبهذا المعنى نفهم أيضا أن التحرير (وظيفة محرر) هى الدرجة الأولى فى تراتبية الهيكل التنظيمي للمحراب سعيا للوصول إلى قمته وسدة القيادة منه، ونظرا لكفاءة الطالب (كونه مصطفى) نتج عنه تقبل طلب الإلتحاق (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ). لاحظ الفعل فى الآية الكريمة (فَتَقَبَّلَهَا) ولم يقل سبحانه (فقبلها) ولاحظ الإسم كذلك (بِقَبُولٍ حَسَنٍ) ولم يقل (قبول حسن) وشتان بين معنى الكلمتين الوارد فى كتاب الله وبين ما ألفناه وعرفناه. علما بأن نتيجة هذا التدبر مبنية فى الأساس على كون أن ما فى بطن امرأت عمران هو كائن بشري أو بمعنى آخر هو مريم ابنت عمران.
ثانيًا: أن إمرأت عمران فى تردادها الأقوال (قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَ ٰنَ رَبِّ إِنّىِ نَذَرْتُ لَكَ) (قَالَتْ رَبِّ إِنّىِ وَضَعْتُهَآ) (وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا) (وَإِنِّى أُعِيذُهَا) ، (الإحتمال الأول): هو إنما كانت تخاطب رجلا مسنا قد بلغ منه الكبر مبلغه فأصبح سمعه ثقيلا بحيث يتطلب الوضع ترداد القول على مسمعه بهدف إطلاعه على تفاصيل ما يحدث ، بحكم ربوبيته لها ولما فى بطنها. أليس هذا ما نصنعه مع كبار السن ممن ثقل سمعهم وقل بصرهم؟ أو (إحتمال ثاني) وهو: أنها كانت تخاطب رجلا مشغولًا منهمكًا (بغض النظر عما يشغله) بحيث لابد أن توافيه بموجز لأهم الأحداث التي حصلت لها.
فالمعنى هنا أن إمرأت عمران فى قولها (رب) إنما كانت تخاطب عمران زوجها وليس كما نظن بأنها كانت تخاطب الله عز وجل وذلك على نسق قوله تعالى ﴿وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا ٱذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ...﴾ فكيف يمكن أن يكون الرب هنا هو الله؟؟ ﴿...فَأَنْسَـﯩٰـهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فىِ ٱلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ﴿42﴾﴾ سورة يوسف. ولو أمعنا النظر فى الآية لوجدنا صدق ما ذهبنا إليه فلفظ الجلالة (والله..) جاء ليعيد مطلقية العلم لذاته الإلهية بقوله (واْللَّهُ أَعْلَمُـ بِمَا وَضَعَتْ) ولكن لو كان الكلام فى سياقه كما قيل لنا أو كما يحلو للبعض لكان السياق (والرب أعلم بما وضعت). ثم تتابع الآية فيقول تعالى (وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلْأُنْثَىٰ) لاحظ هنا بعض الأمور التدبرية الهامة التالية بحيث لا تتجاوز ضميراً أو كلمة أو آية دون أن تعمل فيها بعقلك فى ضوء محددات قرآنية:
1- قال تعالى (... إِنّىِ وَضَعْتُهَآ أُنثَىٰ) وكلمة أنثى هنا نكرة.
2- قال تعالى (وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلْأُنْثَىٰ) والأنثى هنا معرفة بأل ، مما يعنى أن هناك أنثى معروفة غير الأنثى العالقة فى أذهاننا من أول الآية الآنفة (إِنّىِ وَضَعْتُهَآ أُنثَىٰ) ولو قلنا أن المقصود بالأنثى هنا هى مريم نظرا لإكتسابها التعريف بعد التسمية فنقول إذن لماذا لم يسمها القرءان مريم ابنت عمران أو حتى مريم فقط؟ ولكن على الرغم من تسميتها (مريم) فلا زال القرءان يستخدم كلمة (الأنثى) فى إشارة إلى أنثى غير تلك التي نعرف. فمالقصود بالأنثى هنا يا ترى؟
3- ورود كلمة (الذكر) فى الآية الكريمة ولاحظ تقديم الذكر على الأنثى ، فهل نعتبر هذه الآية مفاضلة بين الذكر والأنثى؟ أو بمعنى آخر هل معناها أن الذكر أفضل من الأنثى؟ أبدا ، فلعل البعض هنا يتجرأ ويحاول استقراء نوايا إمرأت عمران غير المعلنة ويقول أن إمرأت عمران فى الأساس كانت تريد أن يكون (مافى بطني) ذكرا ولكن قضت إرادة الله أن يكون أنثى!! فنقول له إن الآية الكريمة لا تصادق على قولك إطلاقا بل هى عكس ما قلت بالضبط. أرى أن الآية تصرح بوضوح أن الأنثى أفضل من الذكر حتى ولو كان فى هذا الرأى تسفيها لأحلام الكثير منا ممن يفضلون الرجل (الذكر) على المرأة (الأنثى) فكلمة (وليس) تعود فى منعها التشبيهى على الذكر وليس على الأنثى، وهذا ما نفهمه من الآية بمعنى أن الأنثى أفضل من الذكر. ولكن القضية هى ماهو سبب ورود كلمة (الذكر) فى سياق الآية؟
4- أما قولها (إِنَّكَ أًنْتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُـ) جاء فى صيغة مبالغة باتجاه المخاطب الذى هو (عمران زوجها) على نسق قوله تعالى ﴿ذُقْ إِنَّكَ ٱنْتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ...﴿49﴾﴾ سورة الدخان. فالله أعلم أن عمران كان من ذوي الرتب العليا فى الهيكل التنظيمي للمحراب بحيث كان ممن يسمعون كلام الله من مصدره مباشرة وهو زكريا ويتعلمونه منه. فهو (يسمع) وليس (يستمع) فالذى يسمع أعلى رتبة ودرجة من الذى يستمع لذلك أطلقت عليه صفة المبالغة (ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُـ) .
ولكي نربط معانى الآيات ببعضها ، فقد قلنا فى الحلقة الأولى ما مفاده أن الله تعالى قال ﴿...وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْـ إِذْ يُلْقُونَ ٱقْلَـٰمَهُمْ أَيُّهُمْـ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴿44﴾﴾ سورة آل عمران، والكفالة هنا ليست عامة، فالكفالة العامة كانت لزكريا بينما هنا كفالة جزئية تتعلق بالناحية التعليمية، فى إشارة إلى أن من كان يختصم على كفالة مريم هم أعضاء من الكادر التعليمي العاملين فى المحراب من الذين يعلمون الناس التوراة، والقلم لا شك هو أداة التعليم التي كانت تستخدم فى التعليم ماضياً وحاضراً، قال تعالى (الذي علم بالقلم) (علم الإنسان ما لم يعلم) لذا فهم ألقوا بتلك الأقلام. كما أن هذه الأقلام هى من نفس جنس العصا التي كان يستخدمها موسى فى الهش على غنمه وأمره الله بإلقاءها (هل هى من الخشب، وهو الأقرب، أم لا الله أعلم) ، لذا ينطبق على ها مفهوم الإلقاء.
وعملية الكفالة كانت أمراً من عند رب زكريا ولم يكن لزكريا الخيار فى قبولها أو ردها (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) كما ذكر أخونا الدكتور الجراح (فى سلسلة مقالات كيف تم خلق عيسى بن مريم)، بحكم أنه نبي بني إسرائيل ذلك الزمان وكبيرهم. لذا جاء تفويضه صلاحية تعليم مريم تحت إشرافه كجزء من مجمل الكفالة أمراً لا بد من تنفيذه فى تراتبية الهيكل التنظيمي للمحراب، وذلك من ملاحظتنا لتسلسل الآيات الكريمات حيث جاءت ءاية الكفالة لزكريا سابقة لعملية الإختصام، وبالتالي فبعد أن كفلها بشكل عام وأصبح الوصي عليها، فوض جزء من صلاحياته فى الكفالة إلى من يختارونه من بينهم وأعني بهم أعضاء الكادر التعليمى بالمحراب.
ولعلنا بمفهومنا التدبري المبسط هذا نستطيع أن نرتقي بتدبراتنا إلى مستويات أعلى نستطيع من خلالها التعرف بشكل أدق وأعمق على بعض من مراد الله فى هذه العائلة الكريمة المصطفاة والله أعلم وأحكم.
التعليقات على الموضوع