ليلة الإسراء وليلة القدر
هاتان اليلتان جاء ذكرهما في القرءان الكريم، وتكثر المرويات والقصص عنهما وبخاصة ليلة الاسراء، ولم يرد في هذا التراث أن هناك علاقة بينهما، ولكن إن تدبرت بعض النصوص القرءانية ستجد أن هناك علاقة قوية بينهما.
ماذا حدث في ليلة القدر
من خلال النصوص القرءانية التي تحدثت عن ليلة القدر ستجد أنها قد تميزت ببعض الأحداث منها أن الله تعالى قد أنزل فيها القرءان الكريم، وأنه قد نزل كاملاً في هذه الليلة كما يبين النص التالي، فيقول تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)﴾ سورة الدخان
ويقول تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)﴾ سورة القدر
ومن الواضح من نص سورة القدر أن في هذه الليلة نزل ملائكة من السماء وكان بينهم الروح وهو نوع من المخلوقات يحمل أمر الله تعالى، وهو الذي تولى تنزيل القرءان الكريم، حيث يقول الله تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)﴾ سورة الشعراء
ومن الواضح أيضاً من النص السابق أن الروح الأمين نزل بالقرءان كاملاً، وبطريقة ما جعله كله في قلب الرسول الكريم (ما نسميه المخ)، ويبدو أن ذلك معناه أنه أصبح محفوظاً في قلب النبي الكريم، وهذا لكون القرءان يحتوي على بعض الأحداث التي ستقع مستقبلاً، فعلى ما يبدو أن النبي لم يكن يتذكره عند نزوله دفعة واحدة، وكان يسمع أجزائه تُقرأ عليه فيما بعد، لأن الله تعالى أراد أن تكون بعض نصوص القرءان موافقة للأحداث التي تقع في عصر الرسول الكريم، حيث يقول الله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)﴾ سورة القيامة
ماذا حدث في ليلة الإسراء
من النصوص التي جاء بها ذكر ليلة الإسراء صراحة قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)﴾ سورة الإسراء
وفعل أسرى يبدو أنه من مفهوم القيادة، أي أن هناك من يتم الإسراء به (أي قيادته لمكان معين) وهناك من سيقوم بعملية الإسراء (القيادة). وفي هذه الليلة نفهم أن عملية الإسراء تمت بأمر من رب العالمين سبحانه وتعالى، فلابد انها كانت حدث عظيم وغير مألوف حدوثه.
أما المُسرى به فقد جاء وصفه بمفردة (بِعَبْدِهِ).
من هو المقصود بالعبد فى القرءان
ورد فى القرءان وصف بعض انبياء الله تعالى بمفردة (عبده) أو (عبدنا) ولكن الملاحظ مجئ اسم النبى المقصود مصاحبًا لمفرة عبده. على سبيل المثال: (ذِكۡرُ رَحۡمَتِ رَبِّكَ عَبۡدَهُ زَكَرِيَّآ) ، (كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحٖ فَكَذَّبُواْ عَبۡدَنَا وَقَالُواْ مَجۡنُونٞ وَٱزۡدُجِرَ) ، (وَٱذۡكُرۡ عَبۡدَنَآ أَيُّوبَ).
أما فى ستة مواضع جاءت مفردة (عَبْدِهِ) وفي موضعين بصيغة (عَبۡدَنَا) دون تعريف بإسم نبي معين، ومن سياق هذه النصوص الأربعة التالية يتبين بوضوح أن المقصود فى هذه الحالة هو النبي محمد عليه السلام، فعلى سبيل المثال: (ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبۡدِهِ ٱلۡكِتَٰبَ وَلَمۡ يَجۡعَل لَّهُ عِوَجَاۜ (1)﴾ سورة الكهف
(تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلۡفُرۡقَانَ عَلَىٰ عَبۡدِهِ لِيَكُونَ لِلۡعَٰلَمِينَ نَذِيرًا (1)﴾ سورة الفرقان
(أَلَيۡسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبۡدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنۡ هَادٖ (36)﴾ سورة الزمر
(هُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبۡدِهِٓ ءَايَٰتِۢ بَيِّنَٰتٖ لِّيُخۡرِجَكُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَإِنَّ ٱللَّهَ بِكُمۡ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ (9)﴾ سورة الحديد
ثم جاءت مفردة (عَبْدِهِ) في سورتين ثانيتين وهما الإسراء والنجم الذين نتناولهما في هذا الموضوع:
﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا... (1)﴾ سورة الإسراء
(فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)﴾ سورة النجم
أما عبدنا بدون تعريف فجاءت فى هذه النصوص:
(وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِ.. (23)﴾ سورة البقرة
(..وَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا يَوۡمَ ٱلۡفُرۡقَانِ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ.. (41)﴾ سورة الأنفال
فهل يجد أحد منكم مجال للشك أن المقصود بالعبد دون تحديد الإسم في هاتين السورتين هو أيضًا الرسول محمد عليه السلام! ويبدو لى أنها قاعدة قرءانية، فمن وصفه القرءان بالعبد دون التعريف بإسمه فهو النبي محمد عليه السلام الذي يتلقى هذا الكتاب والوحي الحالي. أما إن كان هناك وصف لنبي سابق لنزول القرءان فيتم إيراد إسمه مع صفة العبد لتمييزه.
سبب القيام بعملية الإسراء
تبين سورة الإسراء بوضوح أن السبب في إنتقال النبي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في هذه الليلة هو ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا).
وبالإنتقال لنص آخر وهو قوله تعالى: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)﴾ سورة النجم
وهذا النص يبدو لى أنه يتحدث أيضاً عن ليلة الاسراء حيث رأى النبي الكريم من آيات ربه ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) وهو نفس السبب الذي تحدثت عنه سورة الاسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، مع إختلاف أنه الآيات في سورة النجم تم وصفها بأنها من الآيات الكبرى. فقد تكون هى نفس الآيات وتم زيادة فى وصفها هنا بأنها من الآيات الكبرى.
الآيات الكبرى
من الملاحظ أيضًا أن هناك نبي آخر قد أراه الله تعالى من الآيات الكبرى وهو النبى موسى عليه السلام (وَٱضۡمُمۡ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخۡرُجۡ بَيۡضَآءَ مِنۡ غَيۡرِ سُوٓءٍ ءَايَةً أُخۡرَىٰ (22) لِنُرِيَكَ مِنۡ ءَايَٰتِنَا ٱلۡكُبۡرَى (23)﴾ سورة طه
فهل تتحدث سورة النجم عن النبى موسى؟ على مايبدو أنها لا تتحدث عنه بسبب ورود مفردة صاحبكم (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)) وهى تخاطب من نزل عليهم القرءان وأن محمد عليه السلام هو صاحبهم وليس موسى. وورود مفردة عبده (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)) والتى تشير كما أوضحت إلى من يتلقى القرءان وهو النبى محمد.
وبالعودة باقى نص سورة النجم. ان تدبرنا في بداية هذا النص تجده يتحدث عن القرءان الكريم وكيف نزل به الروح الأمين (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) على النبي الكريم، حيث نزل إلى مكان وجود الرسول الكريم في المسجد الأقصى وظهر للنبي بشكل معين (ذُو مِرَّةٍ) في الأفق واقترب منه وأوحى له القرءان الكريم (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) أو كما جاء في نص سورة الشعراء (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) ، وهذا ما يؤيده النص التالي أيضاً
فيقول تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)﴾ سورة التكوير
إذن فذو القوة يقابلها في النص السابق علمه شديد القوة، لا شك أنه الروح الأمين الذى قد يكون رأه الرسول الكريم على هيئته التي خلقها الله عليها ولابد أن هذا شئ عظيم وهو من آيات الله الكبرى التي أراها الله تعالى للنبي في هذه اليلة، وأيضا نزوله من الأفق الأعلى واقترابه من النبي لينزل القرءان على قلبه في هذه الليلة وهي ليلة الاسراء.
ثم يقرر النص أيضاً أن النبي لم يرى الروح الأمين الذي هو من آيات الله الكبرى سوى في هذه الليلة مرتين، وأنه هو الذي نزل من الأفق الأعلى واقترب من النبي ليوحي له القرءان، ثم رآه عندما نزل إلى مكان آخر (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى) والسدرة قد تكون نوع من الشجر، وعلى ما يبدو أنها موجودة على الأرض في مكان المسجد الأقصى (ربما في الوادي المقدس طوى)، لأن النص يقرر أن الروح الأمين قد نزل هناك ورآه النبي الكريم، وسِدْرَةِ الْمُنْتَهَى قد تكون شجرة مميزة ينتهي إليها الناس لسبب ما وعندها جنة أرضية كانوا يأوون إليها لأمور تعبدية أو تعظيمًا لهذا المكان مثلًا.
وقد يكون لذلك علاقة بالشجرة التي حدث الله موسى عندها في الوادي المقدس طوى في قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (28)﴾ سورة القصص
ألم تنتبه لشيء؟ أن القرءان يتحدث في سورة النجم عن ليلة الاسراء ويذكر أن الروح الأمين أوحى القرءان للنبي في ليلة الاسراء.
ليلة القدر هي ليلة الاسراء!
وإن عدنا لموضوعنا عن الليلتين فسنجد في النصوص القرءانية السابقة أن ليلة القدر المباركة التي أُنزل فيها القرءان، وتنزل فيها الملائكة وفيهم الروح الأمين، هي نفس ليلة الإسراء التي نزل فيها شديد القوى واقترب من النبي وأوحى له القرءان الكريم، ورآه فيها مرتين وذلك كان من آيات الله الكبرى، ولم يذكر القرءان أنه رآه في غير هذه الليلة.
وكان ذلك في المسجد الأقصى والذى أعتقد أنه فى الوادي المقدس طوى، وهو نفس المكان الذي تحدث الله فيه إلى موسى وأنزل فيه من بعد القرءان. وهذا أمر يحتاج إلى بحث آخر.
وتأمل كيف بدأت سورة الإسراء بالتحدث عن ليلة نزول القرءان الكريم وتنتقل مباشرة إلى نزول التوراة.
فيقول تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)﴾ سورة الإسراء
التعليقات على الموضوع (126)